على مدى أكثر من 150 عاماً، ظنّ العلماء أن أبرز العناصر الأساسية في الحياة - أي سلاسل جزيئات الأحماض الأمينية والبروتينات التي تكوّنها- تتّسم بميّزة غير اعتيادية ومذهلة: «مرتّبة ترتيباً يسارياً».

Ad

تُعلَّم تلك المقاربة العلمية، التي لاحظها عالم الكيمياء الفرنسي لويس باستور في القرن التاسع عشر، لطلاب الكيمياء العضوية، لكن تنبّه الجميع أخيراً إلى أن أحداً لا يعرف الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة.

شهدت الأبحاث في مجال العناصر الأساسيّة في الحياة تقدماً ملموساً في السنوات الأخيرة، حين ركّزت عملها على صخرة ضخمة تزن 200 باوند، عُثر عليها قبل 40 عاماً في منطقة مرشيسون، في أستراليا. أدّى اصطدام نيزك بكويكب منذ زمن بعيد، إلى تخليف مجموعة غنيّة من المواد المكوّنة أساساً من الكاربون على كوكب الأرض، علماً أنها تأتي من مكان بعيد في النظام الشمسي.

ساعد نيزك مرشيسون الباحثين في اكتشاف معلومات جديدة حول بداية الحياة على كوكب الأرض، وأعطى تفسيراً محتملاً عن كيفية تطوّر مفهوم «الترتيب اليساري» للبروتينات في العالم.

بحسب تفسير الباحثين، قبل بدء الحياة على الأرض، كانت نيازك مماثلة تصطدم بالأرض بشكل متكرّر، ما خلّف أحماضاً أمينية ما لبثت أن دخلت في تكوين الكائنات الحية كافة. قامت النيازك بذلك عبر توفير عناصر أساسية تتّسم بما يسمّى علميّاً «لاانطباقية» (Chirality)، وهي التي تجعل الحياة ممكنة.

قصة معقّدة

يقول الباحث في جامعة كولومبيا رونالد بريسلو، في كتاب نشره أخيراً: «نعرف أن الأحماض الأمينية كلها لديها الصورة المعكوسة نفسها، لكنها تتّسم بصفة «اللاانطباقية» في الكائنات الحية. لا يطرأ هذا التغيير عفويّاً، ولم نتمكّن أبداً من إعادة نسخه في المختبر حتى مع اعتماد شروط شبيهة بتلك التي سادت على كوكب الأرض عند نشوئه.

يضيف بريسلو: «ما يفسّر مصدر تلك الظاهرة، أجسام تشبه النيازك تتكوّن نتيجة سقوط أجسام فضائية على كوكب الأرض. إنها قصة معقّدة، لكننا بدأنا نفهمها بشكل أفضل».

حقق بريسلو وزملاؤه تقدماً ملحوظاً في الآونة الأخيرة حين أثبتوا أن الأحماض الأمينية في صخرة مرشيسون قد تنقل سمة «الترتيب اليساري» إلى غيرها من الأحماض الأمينية المتماثلة. كذلك، اكتشفوا لاحقاً إمكان مضاعفة نسبة «لاانطباقية» الأحماض الأمينية في محلول سائل، في ظل شروط شبيهة بتلك التي سادت على كوكب الأرض عند نشوئه.

توصّل الباحثون إلى الخلاصة التالية: يمكن أن يؤدي العدد المحدود نسبياً للأحماض الأمينية المرتّبة ترتيباً يسارياً في النيازك إلى الحصول على عالم تصبح فيه الأحماض الأمينية والبروتينات كلّها مرتبة يسارياً، إذا ما توافرت الشروط المناسبة. يُذكر أن الدراسة نُشرت في صحيفة Organic Letters وفي محاضر الأكاديمية الوطنية للعلوم.

يُعتبر هذا التحوّل في عالم الكيمياء أمراً جوهرياً للحياة عموماً، فإذا كانت تركيبة الأحماض الأمينية والبروتينات كلّها - التي أصبحت مع الوقت أهم عنصر في الحمض النووي الريبي (RNA) والحمض النووي (DNA) اللذين ينظّمان الحياة بواسطة الجينات- مرتّبة يسارياً ويمينياً بشكل متوازٍ، ما كانت لتتحوّل أبداً إلى مكوّنات ضرورية لتركيبة الكائنات الحية.

ما يزيد الأمر تعقيداً، أن تركيبة معظم أو جميع الأحماض الأمينية في الكويكبات السيّارة، والنيازك، والمذنّبات التي تعبر النظام الشمسي (جزيئات يمكن أن تكون أو ألا تكون جزءاً من الكائنات الحيّة)، كانت في الأصل مرتّبة يسارياً أو يمينياً بنسبة متساوية. ما الذي أدّى إذاً إلى ظهور نسبة أعلى بقليل من أحماضٍ أمينية مرتّبة يسارياً في النيازك؟

تفيد أكثر نظرية شيوعاً أن بعض الأحماض الأمينية المرتبة يسارياً تحوّل بفعل إشعاعات منبعثة من نوع محدد من النجوم النيترونية البعيدة جداً في الفضاء، وهي بقايا انفجار نجم ضخم ذات كثافة وحرارة مرتفعة. تصطدم الإشعاعات الفوق بنفسجية والضوء الإلكترومغناطيسي المستقطِب المنبعث من تلك النجوم بالكويكبات السيّارة، وتعبر الفضاء بسرعة فائقة، وتسبّب تشكّل عدد كبير وغير متكافئ من الأحماض الأمينية المرتّبة يسارياً قبل أن تصطدم بكوكب الأرض على شكل نيازك. (في أنظمة شمسية أخرى حيث تكثر أنواع نجوم نيترونية مختلفة، يحوّل الضوء المستقطِب عدداً أكبر من الأحماض الأمينية المرتبة يمينياً، ما يؤدي إلى عوالم تملؤها جزيئات مرتّبة يمينياً).

«إيزوفالين»

يصرّح دانيال غلافين، خبير في علم الأحياء الفلكي في مركز غودارد للرحلات الفضائية، في غرينبيلت، أنه اكتشف وزملاؤه أخيراً أن تركيبة حامض أميني محدّد في نيزك مرشيسون، يدعى «إيزوفالين»، كانت مرتبة يسارياً بشكل غير متكافئ، بنسبة 18 % تقريباً. اعتبر غلافين أن الخلاصة المنطقية لذلك كلّه هي أن عدم التكافؤ ناجم عن كويكب سيّار أو مذنّب كان يحتوي على الماء قبل اصطدامه بالأرض، مشيراً إلى توافر دلالات على أن هذا العنصر كان في بيئة مائية، ما يفسّر التغيير الحاصل على مستوى التركيبة «اللاانطباقية».

«اللاانطباقية» مفهوم بسيط، لكن يصعب فهمه بالكامل. الجزيئة «اللاانطباقية» هي تلك التي لا تطابق صورتها المعكوسة، وهي شبيهة تماماً باليدين، اليسرى واليمنى، اللتين لهما إبهام وأصابع بالترتيب نفسه لكنهما في الاتجاه المعاكس. ما يزيد الأمر تعقيداً هو أنّ تركيبة البروتينات كافة تقريباً مرتّبة يسارياً فيما السكريات كلها تقريباً مرتّبة يمينياً.

واجهت تحليلات الباحثين تشكيكاً كبيراً حين كشفوا للمرة الأولى عن وجود نسبة أعلى من الأحماض الأمينية المرتبة يسارياً في نيزك مرشيسون (يُعرض الآن في متحف سميث سونيان الأميركي الوطني للتاريخ الطبيعي). كان الانتقاد الرئيس أن النيزك اختلط بلا شك بمواد أخرى حين اصطدم بالأرض، نظراً إلى وجود فائض في عدد الأحماض الأمينية المرتبة يسارياً.

غير أن دراسات إضافية أظهرت أن ثمة أحماضاً أمينية مرتبة يسارياً في نيزك مرشيسون نادرة الوجود على كوكب الأرض وتحوي كمية من نظير الكربون الثقيل (مع كمية إضافية من النيترون) أكبر بكثير من تلك الموجودة في الكربون العضوي على الأرض.

يستنتج بعض الباحثين أن «اللاانطباقية» وجذورها المعقّدة تقلّل من احتمال وجود حياة على كواكب أخرى. لكن بريسلو وغلافين يخالفانهم الرأي كلياً.

يشرح بريسلو: «أعتقد أن هذا النوع من الكيمياء يمكن أن يوجد على كواكب أو كويكبات كثيرة أخرى. تصطدم النيازك بأجرام سماوية دائماً. نظراً إلى الشروط كلها التي توافرت على الأرض عند نشوئه، لا أرى استحالة أن يكون لتلك النيازك المفاعيل نفسها حين تصطدم بكواكب أخرى».