تراوحت الأسباب التي ساقها دبلوماسيون وسياسيون يابانيون لتفسير تراجع دور مصر إقليميا وانحساره- وجميعهم من المتكلمين همساً- بين الإشارة إلى استكانة المصريين وخنوعهم من جانب، والتشديد على صعوبة أوضاع منطقة الشرق الأوسط وغياب الاستقرار عنها منذ قيام إسرائيل على الجانب الآخر. أين مصر من قضايا وصراعات الشرق الأوسط ولماذا تعثر الإصلاح السياسي خلال الأعوام الأخيرة وما هي حقيقة التوترات الاجتماعية الراهنة؟ تساؤلات ترددت أكثر من مرة وبصياغات متنوعة خلال حواراتي مع المسؤولين عن ملفات الشرق الأوسط بالخارجية اليابانية وعدد من الخبراء الأكاديميين في جامعتي طوكيو وكيوتو. والحقيقة أن ذات الانطباع العام السائد في العواصم الغربية الكبرى بشأن تراجع الفاعلية الإقليمية لمصر واستمرار أزمة تحولها الديمقراطي وتصاعد مشكلاتها التنموية ومن ثم غياب دور «مصر النموذج» القادر على التأثير بإيجابية في الجوار العربي إنما ترتفع أصداؤه بوضوح في اليابان. بيد أن القراءة اليابانية للأوضاع المصرية تتميز بحضور مستوى تحليلي إضافي قل ما يلتفت إليه في الغرب.دأب الدبلوماسيون والأكاديميون اليابانيون خلال حواراتي معهم على الإشارة إلى المفارقة الصارخة بين مسارات بناء الدولة العصرية وتحديث المجتمع في اليابان ومصر. فمن المعروف أن كلا البلدين شرعا في عملية نهوض شاملة مع بدايات القرن التاسع عشر حفزتها وصاغت ملامحها المواجهة مع الغرب الاستعماري. وفي حين نجحت اليابان في تأسيس دولة سلطوية عصرية تمكنت من تحديث المجتمع والنهوض به مازجة بين استيعاب التطور العلمي والاقتصادي للغرب والحفاظ على البنى المجتمعية التقليدية وقيَمه لمقاومة التغريب ثم تحولت باتجاه التطور الديمقراطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية ونهاية حقبة التوسع العسكري الياباني في آسيا، أخفقت مصر على هذه الصعد جميعها.بالفعل، فالدولة العصرية التي أسسها محمد علي باشا، وإن أخذت على عاتقها منذ عام 1805 مهمة تحديث المجتمع إلا أنها انتكست مراراً إزاء التدخلات الغربية الاستعمارية ولم تتمكن من صناعة التوازن المطلوب بين الانفتاح على حضارة الغرب كشرط أساسي للنهضة وبين مقاومة التغريب. كذلك فشلت دولة محمد علي في إنجاز تطور علمي واقتصادي حقيقي كان كفيلاً بأن يوفر لها من أسباب القوة ما يؤهلها لمواجهة المطامع الاستعمارية بنجاح على غرار خبرة اليابان، الدولة الشرق آسيوية الوحيدة التي لم يستعمر الغرب أي جزء منها. وباستثناء أعوام الفورة الناصرية 1956-1967، استمر السجل الإخفاقي الشامل نفسه في دولة ما بعد 1952 الجمهورية بل وزاد عليه غياب الحياة السياسية الديمقراطية التي تمتع بها المصريون – على الاقل جزئياً – في القترة بين عامي 1923 و1952. والمحصلة اليوم هي دولة يابانية ديمقراطية ومتقدمة تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم وحالة مصرية متردية تتآكل فيها مؤسسات الدولة الحديثة ويتحلل بها مجتمع مازال يعاني الفقر والضعف والهوان.أما الأسباب التي ساقها الأصدقاء اليابانيون، وجميعهم من المتكلمين همساً ويمثلون حالة مبهرة من رقي السلوك الفردي والجماعي لا نظير لها بالغرب، فتراوحت بين الإشارة إلى استكانة المصريين وخنوعهم والتشديد على صعوبة أوضاع منطقة الشرق الأوسط وغياب الاستقرار عنها منذ قيام إسرائيل. وبغض النظر عن قناعتي بخطأ السبب الأول ومحدودية الثاني، إلا أن المهم هنا هو إدراك أن ما يقال عن تعثر مشروع التحديث والنهضة في مصر يمكن تكراره بوضوح حين النظر إلى معظم الحالات العربية الأخرى. والأهم هو أن نوقن أن لنا في اليابان قوة دولية كبرى تتعاطف معنا ولا تختزل شؤوننا العربية في حديث لا ينقطع عن الإرهاب والصراعات الإقليمية وتهديد الأمن العالمي، وأن نفكر بشجاعة في المقومات اللازمة للخروج من حالة التردي العربية الراهنة والمسؤوليات الكبيرة التي تتحملها الدول وحكامها وتتحملها المجتمعات ومواطنيها في هذا الصدد.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي - واشنطن
مقالات
في اليابان- مصر إلى أين؟
29-09-2008