أصدرت الباحثة السعودية فاطمة عبد الله الوهيبي كتاباً بعنوان «الظل... أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية» تناقش من خلاله حكايات الظل، في المثيولوجيا، في المدونة التراثية والدينية، خصوصاً في القرآن الكريم والحديث الشريف، لدى بعض الفرق الدينية، في المدونة الكلامية والصوفية، كذلك تناقش علاقة الظل والفلسفة، والظل وعلم النفس والكتابة، والظل في التراث العربي، في الأدب الروائي، في الشعر العربي والعالمي.

Ad

حرصت المؤلفة على تتبُّع الظل لتجمعه في محاور علاقاته بالروح والجسد والموت والحياة والمرآة والخيال والحلم والإبداع. حاولت امتلاك فكرة متماسكة عنه لتنتهي إلى وضع أهداف لجلاء المفهوم وتطوره ومتابعة التنوع الذي لحق به، وسعت إلى توصيف المقولات حول الظل، لتكشف ما إذا كانت هناك وحدة كلية تجمع تفكير الثقافات حوله على تنوعها وامتدادها، ثم لتبرز هويته كما عكستها تلك المقولات.

ينطلق الكتاب من فكرة أساسية، أن الظل مرتبط بهاجس الإنسانية الأساسي وهو الموت، لانه لا يظهر إلا في فضاء بصري، ولا بد من مصدر ضوء ليتحقق حضوره في ذلك الفضاء. لذلك سيأخذ كل تفكير بالظل في الحسبان مسألتين مهمتين: تتعلق الأولى بفكرة الانعكاس، فالظل انعكاس لشيء معرض للضوء، وما يترتب عليه من رؤى ذات علاقة بالامتداد والتضاعف والتناسل، وما ينطوي تحتها من أمور ذات صفة أفقية ترتبط في النهاية بفكرة الحركة والزمن، في حين أن الثانية تتعلق بالأصل والفرع، وتنطوي تحت تلك الثنائية مسائل لها صفة العمودية الفوقية والتحتية والتبعية وتفضي إلى طرف ميتافيزيقي ولاهوتي، مرتبط بالمحتد وفكرة العود، وتلتف مرة أخرى لتتشح ببعدها الزمني الصاعد الى مبتداه، فتتشابك المسألتان «الانعكاس، الأصل والفرع» وتتداخلان .

ترد كلمة ظل ومشتقاتها في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، وتأتي في كثير من المواضع بالمعنى المباشر المعروف للظل، الذي هو مظهر مادي بصري للأشياء، أو بمعنى الاحتماء من حر الشمس بكل ما له ظل من الأشياء، ولكن ترد، أحيانا، بمعنى آخر يستوجب التوقف عنده في السياق الذي أحفر فيه عن مفردة الظل، ضمن منظومة العلاقات المشار إليها والارتباطات بالموت والحياة والصيرورة والخلود والخلق.

يبدو الظل منطقة متوسطة بين الموت والحياة، كما بدا في الأساس واسطة الوجود الانفصالي الذي يمسي الظل بسببه واسطة وتمظهراً للوجود في الوقت ذاته، تلك الواسطة هي التي جعلته عند التوحيدي شبيهاً بالرؤيا. لا شك في أن الربط بين الظل والرؤيا في مقابل اليقظة يأتي من علاقة الظل/ الرؤيا بالجانب الروحاني المرتبط بفكرة النور، الذي يحجب عن الجسد حال الموت، فيضحي الظل أو حال النوم، حيث يمتد نوع من الحجب شبيه بالموت، حتى قيل إن النوم هو الموت الأصغر.

تعريف الجرجاني

يحدد الجرجاني في كتابه «التعريفات» مصطلح الظل قائلاً: «الظل ما نسخته الشمس وهو من الطلوع إلى الزوال، وفي اصطلاح المشايخ هو الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها، التي هي معدومات ظهرت باسمه النور الذي هو الوجود الخارجي المنسوب إليها، فيستر ظلمة عدميتها النور الظاهر بصورها صار ظلا لظهور الظل بالنور وعدميته في نفسه، قال الله تعالي: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل أي بسط الوجود الإضافي على الممكنات».

الظل الأول هو العقل الأول لانه أول عين ظهرت بنوره تعالى. ظل الإله هو الانسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية. فها نحن أمام ثلاثة مصطلحات للظل بحسب المعجم الصوفي: الظل/ الوجود الاضافي، الظل الأول، ظل الإله أو الانسان الكامل. يفسر ابن عربي خلق حواء من آدم عبر تفكيره بالظل، ويرى أن وجودها ظلي انفصالي، ومفهوم الانفصال مرتبط بما يسميه الوجود الانبعاثي أو الاضافي، ووجود المرأة هنا وجود ظلي انفصالي انبعاثي متفرع من الأصل.

الظل الياباني

تشير الباحثة فاطمة الى كتابين هما «مديح الظل» و«ماكينة الإبصار»، ينطلقان من نقطة تساؤل وقلق تكاد تكون واحدة. الأول للياباني جونيشيرو تانيزاكي، والثاني للفرنسي بول فيريليو. يقارب تانيزاكي المشكلة المطروحة مقاربة أديب متأمل، لكنها تطرح في العمق المشكلة فلسفياً وإبستمولوجياً. أما بول فيريليو فينطلق من منطلقات فلسفية، ومع اختلاف المداخل ومفاتيح المقاربات، يتعلق الموضوع المطروح بمسألة ما يلحق الثقافة والإنسان مع معطيات التحضر والتقنيات الحديثة، وتحديداً مشكلة الضوء والصورة وثقافة الإبهار والإشهار.

يفتتح تانيزاكي كتابه «مديح الظل» بالحديث عن المقارنة والمفارقة بين العمارة اليابانية الحديثة المتأثرة بالثقافة والعمارة الغربية وبين العمارة اليابانية القديمة بما فيها من وسائل التجهيز للبيت، المتعلقة بالكهرباء والغاز والماء والتدفئة، كاشفاً عن الخسائر التي حدثت بسبب التأثير؛ إذ فُقد تأثير الظل والعتمة وما يحملان من عمق وسكون في مواضع الراحة أو الخلوة في المنازل، بسبب الضوء الباهر والبريق واللمعان الذي غزا طرز الحياة في اليابان، وكان برع أجدادهم القدامى في اكتشاف أسرار الظل وحولوه إلى عنصر جمالي، فـ«ثمة علاقة سرية بين الظل والجمال، تتجلى في مجالات عدة: يفقد المطبخ الياباني جزءاً من جاذبيته حين يُقدَّم في مكان مضاءٍ، فالظل يضفي عليه نوعاً من السحر. لا يستمدّ البيت الياباني القديم جماله من الديكور الذي يخلو منه عادة، وإنما من توظيف كثافة الظل. يفقد مسرح الـ «نو» روعته حين يتخلَّى عن «ظلامه الجوهري» ويُقدَّم على خشبة مضاءة على الطريقة الغربية.

يتقصى تانيزاكي أسرار الظل في المسرح والسينما، ويكشف عن اختلاف السينما الأميركية والأوروبية وعن الفروقات في الموسيقى والصوت، يقول: «لو اخترعنا بأنفسنا الفونوغراف أو الإذاعة لأنجزناهما بطريقة تبرز الصفات الخاصة بأصواتنا وموسيقانا. فعلاً تتميز موسيقانا في أصلها بنوع من التحفظ والأهمية التي توليها للوسط، بحيث إنها تفقد جزءاً كبيراً من سحرها إذا سُجلت ثم ضخمت بواسطة مكبرات الصوت. إننا نتجنب في فن الإلقاء فرقعات الصوت وننمي الإيجاز ونعلق أهمية قصوى على الوقفات. لكن الوقفة في النقل الميكانيكي للخطاب تُدَمّرُ تماماً، هكذا دُفعنا إلى تشويه الفنون بسبب استقبالنا لهذه الأجهزة.. واعتماداً على هذه الواقعة البسيطة... نعتقد أننا تكبدنا خسائر حقيقية».

يقارن تانيزاكي بين الذائقة الشرقية والغربية في مسألة الجمال مرتكزاً على مسألة الضوء والظل يقول: « كان الغرب هو أيضاً يجهل حتى الفترة الأخيرة الكهرباء والغاز والنفط، بيد أنه لم يشعر أبداً، حسب علمي، برغبة في التلذذ بالظل. يتضح أن خيالنا ذاته يتحرك داخل ظلام أسود مثل الملك، بينما يضفي الغربيون على أشباحهم صفة الشفافية التي في الزجاج. الألوان التي نحبها في الأشياء التي نستعملها يومياً هي عبارة عن طبقات من الظل، أما الألوان التي يفضلونها هم فهي تلك التي تجمع داخلها كل أشعة الشمس».

مكينة الإبصار

يهتم فيريليو في كتابه «ماكينة الإبصار» بدراسة أثر تغييب دور العين في عملية الإبصار من خلال متابعة تطور تقنيات الإبصار، المراصد الفلكية، السعي الحديث لإحلال الآلة محل العين في أداء دورها، وتحويل الإبصار إلى ماكينة. يرى فيريليو أن الأجهزة البصرية والمجاهر والعدسات والمناظير الفلكية والعدسات بدلت ظروف الإدراك والاسترجاع للصور الذهنية مكانياً، وأن تحول المخيلة إلى صور هو الذي ساعد، كما يرى ديكارت أيضاً، في الوصول إلى أنه في اللحظة التي «ادعينا فيها امتلاكنا وسائل تسمح لنا بأن نرى بشكل أوسع وأحسن ما لا يرى من الكون، بدأنا نفتقد قدرتنا الضعيفة على تصور الكون».

يكشف فيريليو عن الهوس بالإضاءة ووضع الإنسان تحت المجهر، كما تجلى في الأدب، ويذكرنا بمقولة فلوبير «من الأفضل لنا أن نكون عيناً»، مستعيداً شعار الشرطة الثورية، ويبرز كيف حدث التداخل بين رجل الأدب والفنان ورجل الصحافة ونزعة الوشاية والاستقصاء ودفق كل ما يمكن من إضاءة مبهرة لهتك الحقيقة والخصوصية.

الظل ذلك الوهم، له معانيه الخالدة في الشعر والرواية، لطالما كان مفتاح الإلهام للكثير من الروائيين والشعراء والرسامين، وهو ايماء الى تبدل أحوال الطبيعة والحياة الثقافية كما نلاحظ في الرواية اليابانية المذكورة.