تواصلت الأعمال البربرية الإسرائيلية في مراحلها الجديدة، بنوعية وكمية أكثر وحشية من كل أنواع الحروب المتكافئة وغير المتكافئة في العالم، فما نشهده من تدمير وقتل للناس العزّل والأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، بل لكل السكان الذين فقدوا أي ملاذ ومكان يحميهم في رقعة تميزت بمسطحاتها الطبوغرافية وعماراتها الهشة وسكانها المتزاحمين، بقصف أكثر تقنية وحداثة في قتل العشرات يوميا يُظهر حقد القوات الإسرائيلية، خصوصا أن البحث عن المقاومة يحتاج إلى وقت أطول مما ينبغي، فما كان على هذه القوات إلا استخدام الطرق الحاقدة تجاه السكان الذين ربما يؤوون بينهم رجال المقاومة القادرين على سرعة التحرك بأسلحتهم الخفيفة.

وقد برهنت الدبابات والطائرات من الأعلى على العجز في حسم معركة من نمط المقاومة الشعبية في المدن والأحياء، لهذا بدا تحريض السكان على المقاومة وإدخالهم في حالة رعب وترويعهم طريقة نفسية غير إنسانية في فن الحروب البغيضة للمدن، خصوصاً عندما لا يحترم الجيش المحتل حقوق المدنيين والأسرى التي نصت عليها اتفاقية جنيف، بحيث دفع السكان للرحيل إلى مناطق معينة، وحشرهم في خانة محددة، وجعل المقاومة في منطقة مختلفة، لكي يتم التعامل معها بطريقة أسهل، فمن جهة يُفصلون عن مساعدة السكان ومن جهة أخرى يُفصل السكان عن مظلة المقاومة التي قد تستفيد من الدعم اللوجستي والتمويني لخلفية معينة من احتياطي السكان المدنيين كجزء مهم من مراحل تحركاتها، ولكن ما ينطبق على أوضاع دول ومناطق معينة لا يمكن تطبيقه على رقعة كغزة البائسة بكل إمكاناتها الاقتصادية المحاصرة من كل الجهات الجغرافية.

Ad

في ظل هذه الحقائق نتساءل: ما الذي سيكون قادرا على فعله الشارع العربي عندما تبح حنجرته؟ أليس من الأفضل في مثل هذه المرحلة الدقيقة والحساسة أن نكف عن شتم ولعن الأنظمة، وهي أحد أهم خياراتنا، وحليفنا المهم في دعم المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة؟ أليس خلق نوع من التوازن والتناغم الشعبي والرسمي، بتقاسم الطرفين دورهما العالمي في الدفاع عن تلك القضية، أكثر أهمية من التخوين والاتهام بالتواطؤ والعمل على تحريض الشارع لأغراض سياسية وانتخابية؟

إن الشارع العربي يدرك أن مداه لا يتجاوز حدودا وطاقات معينة، فهل من العقل والحكمة أن ندخل في صراعات خاسرة، يكون الخاسر الأكبر فيها هو القضية الفلسطينية وشعب غزة المنكوب؟ ما يمكن فعله من شارعنا «المنفعل» هو أن يواصل أغانيه اليومية بطرق وأشكال جديدة، أو يتعلم من الشارع العالمي دروسا في فن المقاومة وتجديد أعماله واحتجاجاته الممكنة، فإذا ما نادى الشارع الغربي حكوماته بمقاطعة إسرائيل ومحاكمتها، فإن هناك ثقلا وعلاقات حقيقية مع إسرائيل تتأثر إذا تطورت تلك الضغوط من داخل الشارع السياسي، وإذا حمل ممثلوه في البرلمانات الحية الفاعلة صوته المدوي إلى حكوماتهم.

الشارع العربي من اليوم الأول ينادي الحكومات العربية بمقاطعة إسرائيل وطرد ممثليها، وعلى الرغم من أن علاقات إسرائيل ليست إلا مع ثلاث دول، أكثرها أهمية اقتصادية جمهورية مصر العربية، أما البقية الباقية فليست علاقاتها إلا شكلية ومعنوية، وحضورها مثل غيابها خصوصا في مثل هذه الفترة، فما المانع من سحبها بصمت وإعادتها بصمت، والله المعين؟

ما ينفع شعب غزة ومقاومتها في هذه اللحظات هو الخبز والدواء والدعم المادي المتنوع، فهي أهم من الأصوات المتعالية، التي لا تتجاوز سقف رأسنا «الواطي»!! ففي غمرة الاحتجاجات كنت أسمع أصواتا في ميكروفونات المحطات التلفازية وهي تندد بجملتين: الأولى «خيانة الأنظمة العربية» أما الجملة الثانية فهي «خيانة الزعماء العرب وتواطئهم» ولكن لا أحد يشير بإصبعه الشجاع إلى النظام أو الزعيم المقصود، لذلك أقول لقد ضاعت «الطاسة» وجبن الشارع السياسي، فكأن المحتجين ينتقدون الكونغو فيما هم ينتمون إلى الصومال أو العكس هو الصحيح، فلمَ لا تسمى الأشياء بمسمياتها؟ هل نضج الشارع العربي بوعي حقيقي وفهم التناقضات وأدواتها ووضع كل تلك التناقضات التاريخية في مسارها وتعامل معها بكل معرفة في القرن الحادي والعشرين؟ أم أنه يركض وراء صوت لعلعة الرصاص و«حماسه» ليدعم «حماس» بحماسها بدلا من إنقاذها وشعب غزة بفرق إنقاذ ما عادت قادرة على توفير حتى سلة خبز أو دواء أو سيارة إسعاف واحدة تحمل الضحايا إلى مستشفيات عاجزة هي أيضا.

حان الوقت للشارع العربي أن يتحرك نحو الفعل الأهم والعملي لإنقاذ ودعم شعب غزة وقضيته، ولا يتراخى حتى دقيقة واحدة لملاحقة مجرمي الحرب وبكل الوسائل حتى بعد توقف الجريمة وآثارها الطويلة على أطفال غزة وسكانها.

* كاتب بحريني