قد لا يعدو حماس جمهورنا، «شارعنا» العربي، للزعيم التركي رجب طيب أردوغان، وهو يتلاسن مع رئيس الدولة العبرية شيمون بيريز ويغادر محتجّا مقاطعاً جلسة كانت تجمعه به، إلا من قبيل حماسهما («الشارع» والجمهور) حيال حذاء الصحافي العراقي منتظر الزيدي وإلقائه في وجه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، في حادثة شهيرة بوأت صاحبها منزلة البطولة.

Ad

قد لا يروق مثل هذا التشبيه رئيس الوزراء التركي وقد لا يعجبه، ولكن ذلك ما قد يكون مآل ملاسنته الأخيرة مع الرئيس الإسرائيلي في عيون المنطقة، فعل تحدٍّ يستنفد ذاته في مجرد حصوله، آية كرامة ونخوة وموقف عزّ يستوفي الحياة فإذا هذه الأخيرة هي إياه، تنحصر فيه لا تتعداه، إلى غير ذلك مما يقول نثر من هذا القبيل، غزير عندنا عارم.

وربما عاد ذلك إلى عادة بين ظهرانينا، استحالت تشوها استفحل حتى أضحى من طبيعة خلقية أو يتسم بتمكّنها، هي تلك التي درجت على قراءة كل ما يجدّ، كل حدث يحصل أو كل موقف يُصار إلى الصدوح به، قراءة إيديولوجية، غير واقعية بمعنى آخر، حماسية أو شعاراتية، مغرضة لأنها تسير باتجاه الأماني، أو تتعاطى مع هذه الأخيرة على أنها وقائع، هي تلك التي تجعل مثلا، من قذف حذاء في وجه رئيس أميركي، نصرا تاريخيا مؤزّرا و«فاتحة عصر جديد»، في حين أنها لا ترى في ما اقترفته إسرائيل في غزة وفي قطاعها من تقتيل يفوق الوصف ومن دمار شامل سوى هزيمة للدولة العبرية نكراء، بل وبذلك المعنى العسكري قبل سواه.

والحال أن رئيس الوزراء التركي لم يكن، على الأرجح، معنيا بمثل هواجس النخوة تلك وما شاكلها، مهما كانت مشاعره الحقيقية حيال إسرائيل وتعاطفه الأكيد مع أهل غزة، وذلك أقله لأن مثل تلك الهواجس، إذ تحيل المواقف إلى سلسلة من الطفرات لا ناظم لها غير شخوصها نحو مجرد التحدي، ليست من السياسة ولا ترتقي إلى مصافها، وذلك بالرغم من أن «الإسلامية» المفترضة للزعيم التركي ولحزبه الحاكم ربما خلفت لديهما «غرائز» جهادية ثابتة لا تزول في حسبان البعض منا.

في حين أن ما يميز النازع التركي، سواء كما تجلى في احتجاج أردوغان في مؤتمر «دافوس» أو في مناسبات أخرى كثيرة، أقله منذ بدء المحنة الأخيرة في غزة، من غير تلك الطبيعة ومن غير ذلك النسق. فهي التعبير الجلي عن أمر قد لا يكون معهودا في المنطقة العربية ومن لدن دولها، هو إقامة الفارق بين التحالف، ينشأ بين دول ذات سيادة، وبين مجرد علاقات التبعية.

تركيا تنتمي بطبيعة الحال إلى الصنف الأول، وما ذلك بالأمر الطارئ والجديد عليها والذي يمكنه أن يُنسب، بتبسيط، إلى حزبها الحاكم راهنا وإلى توجهه الفكري. وهكذا فإن العلاقات التركية-الإسرائيلية وثيقة وستظل على وثوقها بالرغم من كل الخلافات بين الطرفين، تقوم على اعتراف يعود إلى بدء نشوء الدولة العبرية وعلى تعاون مكين في مجالات حيوية، عسكرية واقتصادية وسواها، هذا ناهيك عن انتمائهما، على نحو استراتيجي، إلى المعسكر (إن اعتمدنا مفردة تعود إلى أيام الحرب الباردة) أو المجال الغربي، وإن مع قدر من التفاوت في الحظوة. ولم يطرأ على كل تلك الصعد من التحولات الموضوعية ما من شأنه أن يرهص بمراجعة جذرية يقدم عليها أي من طرفي تلك العلاقة، على ما يبدو أن البعض في المنطقة العربية يتصوّر أو يتمنى.

وللسياسة التركية في مثل ذلك الصدد سابقة قد يتعين استذكارها والتوقف عندها، حيث أقامت أنقرة طيلة الحرب الباردة، أي في فترة ربما كانت تتطلب انضباطا أكثر مما هي عليه حال الوضع الدولي الآن واصطفافاته، على توتر مقيم مع جار يشاطرها الانتماء إلى حلف شمالي الأطلسي ووقوفها بثبات في صف ما كان يُعرف بـ«المعسكر الغربي»، وهو توتر تفاقم حتى الصدام والحرب الأهلية في جزيرة قبرص التي احتلتها القوات التركية ما أفضى إلى انشطار لايزال ماثلا، مشكلة عويصة كأداء، حتى يوم الناس هذا... وقد كان النزاع التركي-اليوناني ذاك، مثالا نادرا، إن لم يكن يتيما، على خلاف بتلك الحدة والخطورة، ينشأ بين بلدين ضالعين، من وجه آخر، في تحالف استراتيجي وثيق وملزم.

كل ذلك للقول بأن السياسة التركية تستند إلى مبدأ أساسي، هو مبدأ السيادة معيارا تقاس به المصلحة الوطنية، مع اعتبار التحالفات، قد لا يكون معلوما في المنطقة العربية التي درجت، على صعيد الخطاب السياسي، على ثنائيات صارمة، بين «معتدلين» و«ممانعين»، «متخاذلين» و«مقاومين»، «خونة» و«وطنيين»... وما إلى ذلك من تصنيفات تشنيعية، أي غير سياسية، وقد تقبل من جراء ذلك على مقاربة للسياسة التركية قوامها سوء الفهم وسقم الإدراك، فتبالغ في التوقع وتؤسس لخيبات أمل.

ربما عاد ذلك إلى أن مفهوم «السيادة» لايزال غريبا في ربوعنا، أو لا يُفهم إلا بمعانيه الأولية: استئثارا بالسلطة وبمزاولتها.

* كاتب تونسي