Ad

عندما قدِم الكاتب الهندي أرافيند أديغا إلى لندن لإطلاق روايته The White Tiger الفائزة بجائزة Booker أخيراً، أقام صاحب دار النشر على شرفه مأدبة عشاء في مطعم هندي فاخر في منطقة مايفار. زخر المطعم بتحف منحوتة بإتقان وقماش باهظ الثمن وقطع تاريخية نادرة. أما قائمة الطعام فازدانت بصور تذكّر بأفراد الطبقة الحاكمة في الهند. المفارقة أن هذا المكان يشبه تماماً نوع الروايات الهندية التي يرفضها أديغا.

تمتاز رواية أديغا «النمر الأبيض» بالسرد السريع الذي يعتمد صيغة المتكلّم بعيداً عن الثرثرة. يروي أحداث هذه القصة بطلُها، فتى ريفي معدَم تحوّل إلى شخصية بارزة في عالم الأعمال المزدهر في الهند. تعكس الرواية الأولى التي وضعها هذا الصحافي السابق (34 عاماً) آمال فقراء الهند وغضبهم، وتُظهر ثمن كفاحهم «كي لا يكابدوا الأوجاع التي عاناها آباؤهم، وكي لا ينتهي بهم المطاف إلى تلك التلة من الجثث المجهولة الهوية التي ستتعفن في الوحل الأسود في غانغا الأم».

لا شك في أن كل مَن زار الهند يفهم لمَ جعل أديغا بالرام هالواي سائقاً. يُعتبر السائق عادة احداً أكثر الناس صبراً، قد ينام في مقعده ساعات أو يوماً أو دهراً! يشير أديغا الى الكاتب شو الذي يعتقد في مسرحيته Man and Superman أن السائق هو «أول عضو في الطبقة العاملة قد ينتقل إلى النظام التكنوقراطي الجديد أو حكم الأفضل». علاوة على ذلك، «يسمع السائق في الحضارة الهندية أموراً مثيرة للاهتمام بسبب الازدحام، فالعالقون في الزحمة الخانقة يناقشون مع مَن يجلس إلى جوارهم في السيارة مسائل عدة، مثل الشؤون المالية والعلاقات العائلية والعلاقات الحميمة». لذلك يُعتبر السائق، نظرياً على الأقل، «الرجل الأنسب للتحرر من النظام السائد».

وجّه بالرام سبعة خطابات اعتراف إلى رئيس مجلس الدولة الصيني ون جياباو، وتمكن بصوته الجريء والآسر من الاستحواذ على اهتمام لجنة التحكيم وأرغمها على منح أديغا جائزة Booker. في اليوم الذي تلا فوزه، كان أديغا يشعر بالتعب، لكنه تكلم بصوت قوي ورزين. يتذكر هذا الكاتب أنه مرّ بمرحلة توتر عصيبة عند انتقاء الكتب المرشحة من اللائحة الكبرى في شهر أغسطس (آب) الماضي: «من الغريب أن توتّري انخفض مع كل إعلان عن الكتب المرشحة. كانت اللائحة الكبرى أكثر ما أثار قلقي. تنفست الصعداء عندما تجاوزت مرحلة اللائحة الكبرى. شعرت أن كتابي اختير من ضمن مجموعة كبيرة جداً من الإصدارات».

على رغم القيود التي تفرضها الشهرة المفاجئة على المرء، ما زال أديغا يناقش بسلاسة مذهلة الحقائق المؤثرة التي دفعته إلى كتابة روايته. في الهند، على حد قوله، «سيمسك الفقراء قريباً بزمام حياتهم. قد لا يحدث ذلك بالضرورة بطرق ليبرالية... أحب المزايا الليبرالية التي تميّز الطبقة الوسطى. أودّ أن تنتشر في مختلف طبقات المجتمع. إلا أنني أخشى من أن الدولة الليبرالية، إذا لم تسد حاجات أشخاص كبالرام بسرعة كافية، فسيسعى هو وأمثاله إلى توجيه حياتهم كما يحلو لهم، ملحقين الضرر بهذه الثقافة الليبرالية التي كانت قائمة في الهند منذ زمن».

فقر وتمييز

يقود بالرام بنفسه انقلاباً ضد فقر الأرياف والتمييز الطبقي. يتخذ أديغا من نيودلهي مقراً لبعض مشاهده. ثم يستند إلى ما رآه في أسفاره في الهند وحواراته مع عدد من ملايين المهاجرين الذين تركوا قراهم وحوّلوا المدن الكبرى إلى آليات تغيّر متواصل. يوضح أديغا: «برحلة واحدة ينتقلون من مناطقهم الإقطاعية إلى التمدّن. تنقلك رحلة بالقطار من بيهار إلى دلهي من القرن الثامن عشر إلى القرن الحادي والعشرين. غالباً ما يكون هذا التبدل في نمط حياة هؤلاء سريعاً جداً».

ولِد أديغا في مدينة تشيناي في الجنوب، حيث «الديمقراطية الشعبية المحلية» في مرحلة متقدّمة ونسبة النساء المتعلمات مرتفعة نوعاً ما، لكن وسط هذا الازدهار المتنامي في الشمال، «تقف وحدك. لا داعم لك ولا سند، خصوصاً في دلهي التي تتميز عن غيرها من المدن الهندية بأنها متحررة من سياسة الوصاية. ما من فريق إثني يسيطر عليها».

فيما تفشل الحكومة في تأمين التعليم والخدمات الصحية للفقراء، يتعلم بالرام وغيره ممن يسعون للارتقاء في المجتمع الاعتماد على نفسهم. يشكل انهيار البنية التحتية بحد ذاته دافعاً وراء هذا الطموح. يشرح أديغا: «الحكومة الهندية مفلسة. اعتادت منذ سنوات إلقاء واجبات الحكومة المركزية على عاتق ولايات تقدّم خدمات أساسية مثل العناية الصحية والتعليم. الصورة التي أرسمها هنا مستمدة من واقع الحياة». لكن بالنسبة إلى أهل الجنوب، «هذا حقاً مخيف لأنني لم أرَ هذا الوجه من الهند خلال نشأتي... فاحتمال وفاة المرأة وهي تضع مولودها أكبر في شمال الهند منه في السودان. تفهم السبب عندما تزور تلك المستشفيات».

يفيد أديغا بأن ازدهار الطبقة الوسطى يخفي ثلاث عقبات ما زالت تعيق الفقراء. «إذا كنت لا تجيد الإنكليزية لأنك لم تتعلمها قبل بلوغك العاشرة، إذا لم تتمكن من دخول المستشفى وأُصبت بالتيفوئيد وخسرت عملك، وإذا رفضت الشرطة مساعدتك واغتصب رجال الشرطة زوجتك عندما قصدت مركزهم، ففي هذه الحالة أنت تفتقر إلى ثلاثة عناصر أساسية تتمتع بها الطبقة الوسطى: التعليم، العناية الصحية، الأمن والنظام. تريد أن تعيش برخاء، بيد أنك عاجز عن تحقيق هذا الهدف، فتشعر بالاستياء».

شخصيّة مرموقة

بفكاهة ساخرة وبلاغة في السرد، يتبع بالرام طريقاً محفوفاً بالمخاطر ليتحوّل من رجل نكرة إلى شخصية مرموقة تنعم بالأمان. لكن عدد من يحذو حذوه ما زال قليلاً اليوم. كما يلاحظ الزائر، يحافظ هذا البلد على الأمن في مختلف أرجائه. على رغم بعض موجات العنف الجماعي، يتصرف معظم الهنود بشكل متحضّر في حياتهم اليومية.

حول هذا التناقض يقول أديغا: «بدأت كتابة الرواية كمحاولة للإجابة عن السؤال: لمَ الجريمة متدنّية إلى هذا الحد في الهند؟ ولمَ لا يزال هذا النظام قائماً على رغم الشرخ الطبقي العميق والاحتكاك اللصيق بين الخدم وأسيادهم؟ فإذا زار شخص ميسور منطقة سكنية هندية، يصبح هو الخطر المحدق. من ينتمي إلى الطبقة الوسطى، يغدو خطِراً. ينظرون إليه والخوف يملأ عيونهم».

بخلاف الإيمان والعائلة اللذين يحافظان على تماسك المجتمع، تفتقر الأمة «إلى عقيدة الكره». يجب أن يقتنع الفقراء بأن من حقهم الرد على مَن يسيء إليهم. يخلو تاريخ الهند حتى الآن من أي إشارة إلى البغض والكراهية». لكن هذه الرواية تُظهر أن الوضع قد يتبدل.

على الرغم من نظرتها المتشائمة إلى التوتر بين الطبقات، تعرض رواية «النمر الأبيض» بسلاسة مدى دهاء بالرام في كسر المحرمات كلها. أراد أديغا التحرر من «الخطوط العاطفية التقليدية» للفضيلة والشرف التي تتبعها الروايات والأفلام الهندية في تصوير الفقراء. يوضح أديغا: «أعتقد أن صفتين تدلاننا في الأدب على أننا نتعامل مع شخصية يجب احترامها، هما الفكاهة والقدرة على ارتكاب الرذيلة. لا داعي لأن تقترف الرذائل فعلياً».

لم يستمد أديغا الوحي من روايات هندية بل من كتب كلاسيكية تتناول مشاكل الأميركيين الأفارقة الاجتماعية، مثل رواية Invisible Man لرالف إليسون وNative Son لريتشارد رايت، وA Bend in the River لفيديادر سوراجبراساد نيبول. يؤكد أديغا وجهة نظر نيبول القائلة إن «أصعب الأمور في الهند هو رؤية الهند. لا تزال هذه النظرة صحيحة نسبياً». في سعيها لبلوغ مستوى رفيع من الصفاء في الرؤية، كسرت الرواية عدداً من القواعد المتعارف عليها. يعدد أديغا ثلاثة عناصر أدبية هندية أراد تجنّبها: الوصف مع مواقعه البديعة التي لا يحدّها زمان، الروحانية مع تصوّفها المتحرّر من أي إطار، والاستعمار مع صورة السكان المحليين الأخيار وهم يخضعون لرجال الحاكم المستبدين: «تخدم هذه العناصر قناعاً لإخفاء الحقيقة الهندية اليوم، وهي أن الهند مستقلة وقوية وتنعم باكتفاء ذاتي وتعاني نظاماً طبقياً يقمع الشعب». علاوة على ذلك، « الرواية التي تصوّر أفراداً من الطبقة الوسطى كضحايا تُعتبر خطيرة، فهي تخفي الحقيقة لأن أفراد الطبقة الوسطى مثلي يكونون عادة الظالم لا الضحية».

تذوّق

أخبرتك بكل ما تحتاج إلى معرفته عن المقاولة: كيف تدعّم العمل، كيف تتخطى المصاعب، كيف تصمّم على تحقيق الأهداف، وكيف تنال في النهاية ميدالية النجاح الذهبية.

سيدي، مع أن روايتي شارفت على النهاية وأطلعتك على أسراري كافة، إسمح لي إضافة كلمة صغيرة.

(هذه حيلة قديمة تعلمتها من «الاشتراكي العظيم». ما إن يبدأ الحضور بالتثاؤب حتى يقول: «كلمة أخيرة». ثم يتابع الحديث لساعتين أخريين.) عندما أعبر طريق هاسور الرئيسة، عندما أمر في القطاع الأول من مدينة إليكترونيكس وأرى هذه الشركات كلها، لا يسعني أن أخبركم كم أشعر بالفرح. شركات جنرال إليكتريك وديل وسيمنز كلها هنا في بنغالور. ثمة شركات أخرى في طريقها إلى هنا. نرى أعمال البناء في كل مكان، نرى أكوام الطين والحجارة والطوب. تغلّف المدينة غمامة من الدخان والتراب وغبار الإسمنت. باتت المدينة مقنّعة، لكن كيف ستبدو بنغالور عندما يُرفع القناع؟

قد تكون كارثة: مناطق سكنية مقتظة، مياه الصرف الصحي، مراكز تسوق، ازدحام سير، رجال شرطة، لكن ربما نحن مخطئون. قد تبدو مدينة جميلة حيث يمكن للبشر العيش كبشر والحيوانات كحيوانات، فتغدو بنغالور جديدة لهند جديدة...

أولست جزءاً من كل ما يبدل هذا البلد؟ ألم أفز بالصراع الذي يجب على كل رجل فقير هنا أن يخوضه، كي لا يكابد الأوجاع التي عاناها آباؤه، وكي لا ينتهي به المطاف إلى تلك التلة من الجثث المجهولة الهوية التي ستتعفن في الوحل الأسود في غانغا الأم؟...

لكن ألا يُعقل أن كل مَن يتبوأ مكانة رفيعة في هذا العالم، بمن فيهم رئيس مجلس دولتنا (بمن فيهم أنت سيد جياباو)، قد قتل أحداً وهو في طريقه إلى القمة؟ اقتلْ ما يكفي من الناس، فينصبون لك تمثالاً برونزياً قرب مقر البرلمان في دلهي. لكن هذا مجد، ولا أسعى إلى المجد. كل ما أرادته هو فرصة العيش كإنسان...