ما السبيل للحيلولة دون تسلط نخب الأغنياء والأقوياء والنافذين على جموع المواطنين سواء بالحجر على آرائهم واجتهاداتهم أم بمنعهم من التعبير عنها بحرية، ومن ثم تفريغ التعددية من مضامينها بجعلها حكراً على «الكبار»؟ أسعدني النقاش الذي أثاره مقال الأسبوع الماضي حول العلمانية ومعانيها، واليوم أتابع بمفهوم آخر لا يقل أهمية هو التعددية.للتعددية أربعة مضامين مركزية: 1) التسليم بحتمية تنوع الآراء واختلاف الاجتهادات حول شؤون الدنيا والدين داخل الدولة الواحدة والمجتمع الواحد. 2) رفض الادعاء باحتكار أي رأي أو اجتهاد للحقيقة المطلقة. 3) ثم تأسيساً على ذلك الإيمان بأن على الدولة والمجتمع حماية التنوع والاختلاف نصاً (الدستور والقوانين) وعملاً (الممارسة). 4) وكفالة حقوق متساوية للمواطنين جميعهم في التعبير بحرية عن آرائهم واجتهاداتهم والإسهام في تحديد معنى المصلحة العامة. إلا أن هذه المضامين تواجه الدول والمجتمعات بتحديات كبرى جوهرها البحث عن طرق للتوفيق بين انفتاح وتسامح مبدأ التعددية وإلزامية العقائد والتعاليم الدينية، من جهة، والتفكير في شروط المساواة الفعلية بين مواطنين مختلفين في الرأي والاجتهاد وشديدي التفاوت في حظوظهم من الغنى والقوة والمعرفة،من جهة أخرى. بعبارة أخرى، هل تضع العقائد والأديان، بما تحلله وما تحرمه، الحدود النهائية للتعددية وتفرق بين المقبول من ممارساتها والمذموم، أم تأخذ التعددية مداها مجتمعياً ولا يحدها في الممارسة الفردية سوى احترام حقوق الآخرين وعدم التعدي على حرياتهم؟ وما السبيل للحيلولة دون تسلط نخب الأغنياء والأقوياء والنافذين على جموع المواطنين سواء بالحجر على آرائهم واجتهاداتهم أم بمنعهم من التعبير عنها بحرية ومن ثم تفريغ التعددية من مضامينها بجعلها حكراً على «الكبار»؟وبقدر من التعميم، يمكن القول إن الدول والمجتمعات الحديثة سعت إلى تنظيم العلاقة بين التعددية والدين انطلاقاً من نهجين رئيسيين لا ثالث لهما؛ إما تغليب قيم التنوع والاختلاف والحرية على الضوابط والحدود الدينية، وإما العكس. نزعت شعوب الغرب والشمال نحو تقليص مساحات الممنوع والمرفوض والمحرم، وأطلقت عقل ووجدان الإنسان لممارسة التعددية فردياً ومجتمعياً، وصاغت دساتيرها وقوانينها لحمايتها. أما شعوب الشرق والجنوب فغلَّب معظمها، باسم الدين، المنع على السماح، وقدم ضوابط التعددية على ممارستها، محجِّماً بالتبعية من حريات المواطنين.تفاوتت كذلك طرق التعامل مع مسألة المساواة بين المواطنين المختلفين في الرأي والاجتهاد والإمكانات المتاحة للحيلولة دون تسلط الكبار وقمع الصغار حمايةً للتعددية. بعضهم، كما هو الحال في الولايات المتحدة، ركز على ضمانات المساواة القانونية والسياسية وتجاهل الاعتبارات الاقتصادية والحدود التي قد يضعها الفقر أو الضعف على حريات المواطنين. بينما أعطى بعضهم الآخر، كروسيا الماضي وصين اليوم، الأولوية لضمانات المساواة الاقتصادية وافتأت على الضمانات القانونية والسياسية، فاتحاً المجال لتسلط القوي على الضعيف واستبعاد آراء واجتهادات المواطنين خارج دوائر النفوذ من ساحة النقاش حول المصلحة العامة. في حين تناقضت توجهات وأفعال فريق ثالث، في موقع القلب منه مصر والعدد الأكبر من شقيقاتها السلطويات، تناقضاً شبه تاماً مع ضمانات المساواة كلها، قانونية كانت أم سياسية واقتصادية. فلا حق للمواطنين في الاختلاف ولا تسامح مع ممارستهم للحرية.تلك هي التحديات التي تطرحها التعددية على الدول والمجتمعات والاختيارات الممكنة للتعامل معها. وبوضوح شديد، أعلن انحيازي لتغليب قيم التنوع والاختلاف والحرية على نهج المنع والتحجيم وفرض الضوابط وتفضيلي ضمان مساواة المواطنين القانونية والسياسية كأساس لممارسة للتعددية، على ذبحها باسم مساواة اقتصادية أبداً لم ولن تتحقق.* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي.
مقالات
التعددية
21-07-2008