الصراع الراهن والمكتوم الذي يحيط بمدينة كركوك، ليس حديث العهد، كما يظن البعض، فهو متوارث منذ انهيار الدولة العثمانية حتى الآن، تكتسب المدينة أهميتها لدى صناع القرار العالميين من الثروات التي تختزنها في باطنها، والتي تقارب نحو 10 مليارات برميل كاحتياطيات نفطية مؤكدة. ما زالت منطقتنا تمر بمرحلة تاريخية فارقة بسبب التغيرات التي عصفت ببنيتها السياسية والإقليمية منذ العام 2003 وحتى الآن، واللحظة الراهنة تستمد صفتها التاريخية من كونها فاصلة بين عصرين ونظامين إقليميين؛ أي عصر ونظام انقضيا، وعصر قادم يتأسس على نتائج هذا الانقضاء. وأحد مظاهر العصر الجديد، هو الصراع في مدينة كركوك العراقية، التي يطمح الأكراد إلى ضمها إلى إقليم كردستان العراق، في حين تعارض تركيا ذلك الانضمام. وإذ يبدو الصراع التركي-الكردي على هوية كركوك في التغطيات الإخبارية صراعاً تحكمه الاختلافات الشخصية بين القادة الأتراك والأكراد، فإن هذا الصراع كان وما زال علماً على مدينة كركوك وهويتها منذ انهيار الدولة العثمانية وظهور الجمهورية التركية على أنقاضها وحتى الآن. كان العراق يدخل بكامل حدوده الحالية وحتى العام 1921 ضمن حدود الدولة العثمانية، إذ كانت الولايات الثلاث الموصل وبغداد والبصرة والتي شكلت العراق لاحقاً، من الولايات العثمانية. وإن كانت السيادتان العسكرية والسياسية للسلطنة قد امتدتا لتشملا الولايات الثلاث، فإن التداخل العرقي في ولاية الموصل وعاصمتها كركوك كان أكثر وضوحاً. تجسد مدينة كركوك معاني تاريخية واقتصادية واستراتيجية متداخلة، حيث يتعايش تاريخياً في هذه المدينة العريقة، البالغة من العمر حوالي ثلاثة آلاف عام، كل من العرب والأكراد والآشوريين والتركمان المدعومين من تركيا. وبخلاف الموزاييك العرقي في كركوك (تعنى بالتركية المكان الجدير بالمشاهدة)، تكتسب المدينة أهميتها لدى صناع القرار العالميين من حقيقة كونها تحوي تحت باطنها حوالى عشرة مليارات برميل من النفط الخام كاحتياطيات مؤكدة. وتخبرنا الروايات التاريخية أن النفط كان مشاهداً هناك منذ عصور غابرة، إذ كتب المؤرخ الروماني بلوتارك في مذكراته إلى الإسكندر الأكبر يخبره بوجود «وادي من النيران السائلة بالقرب من مياه سوداء متسخة» في كركوك. وقبل أكثر من مئتي سنة من الآن كان الجيش العثماني يستخرج النفط كمادة للإضاءة من كركوك. وفي العام 1914 اشترت شركة النفط البريطانية-الفارسية نصيب السلطنة العثمانية في الشركة القابضة المالكة لنفط كركوك، وبعدها اشترت الحكومة البريطانية، بناء على نصيحة وزير البحرية البريطانى وقتذاك ونستون تشرشل، أغلبية الحصص فى شركة النفط البريطانية-الفارسية، وأصبحت بالتالي المالك الرئيسي لنفط كركوك. لم تنس تركيا لواء الموصل وعاصمته كركوك، إذ ان مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك ذهب إلى تشكيل ميليشيات لمحاربة الانكليز هناك وإعادتها إلى تركيا، ولكن القذائف البريطانية أسكتت هذا التحرك. وحتى في مؤتمر «لوزان» الذي عقد عام 1923 بغية تحديد الوضع القانوني لممتلكات السلطنة العثمانية في البلاد المختلفة، كانت «مسألة الموصل» حاضرة؛ إذ لم تتخل تركيا عن «حقوقها التاريخية» هناك؛ ولكن عصبة الأمم قررت في عام 1925 أن تؤول تبعية الموصل وضمنه كركوك إلى المملكة العراقية. وفي العام الذي تلاه تنازلت تركيا رسمياً عن الموصل واعترفت بخط الحدود الذي عينته عصبة الأمم، في مقابل حصول تركيا على نسبة عشرة في المئة من عائدات نفط الموصل ولمدة خمسة وعشرين سنة، عدلت لاحقاً إلى سعر مقطوع ولمرة واحدة. ولكن الجمهورية التركية بعد أتاتورك لم تنس هي الأخرى كركوك؛ حتى أنها أعلنت الاستعداد العسكري في عام 1959، حين وقعت هجمات على التركمان هناك. وبعد إقامة «منطقة آمنة» للأكراد في شمال العراق عام 1991، فقد حرصت كل من تركيا والولايات المتحدة الأميركية على ألا تُشمل مدينة كركوك ذات الدلالات المتلاطمة. تعتبر الاستراتيجية التركية مدينة كركوك الغنية بالنفط أحد الخطوط الحمراء التي لا يجب على الأكراد تجاوزها، نظراً لأن ذلك من شأنه إحداث تداعيات على جنوب شرق تركيا ذي الغالبية السكانية من الأكراد، وهو ما يهدد في النهاية وحدة الأراضي التركية. أما الأكراد فيعتبرون أن المادة 140 من الدستور العراقي تمنحهم الحق في ضم المدينة إلى منطقتهم وإعلانها عاصمة لهم عبر اجراء استفتاء على هويتها، وهو ما من شأنه تدعيم حظوظ الأكراد في تحقيق أمانيهم القومية، نظراً لأن موارد كركوك النفطية سترفد الكيان الكردي بأساس اقتصادي متين. الصراع على كركوك لم ينته بعد، وستشهد الفترة المقبلة بعض تجلياته، ولكنه سيبقى على أي حال «ترمومتر» لقياس حرارة الأوزان الإقليمية المختلفة ومؤشراً لا يخيب على توازن التحالفات الدولية في منطقتنا.باحث مصري متخصص في الشؤون الايرانية
مقالات
الصراع على كركوك بين التاريخ والمصالح
05-06-2007