في أحد الاستديوهات الفسيحة التي تغطي جدرانها المرايا، ترى مجموعة من الفتيات الصغيرات في أثواب الرقص الوردية والصبية في سراويل قصيرة سوداء وقمصان قطنية بيضاء وهم يقفون منتصبين، فيما يشدون أصابع أقدامهم ليتخذوا وضعيتهم الأولى.

Ad

تتجول مدرّستهم، غادة طايي، بينهم لتشد ركبتين مرتخيتين هنا وتعدل انحناءة ذراع هناك. ثم تشغّل المسجلة، فيصدح صوت البيانو في الغرفة.

تقول طايي والابتسامة تعلو ثغرها: «لا تظن أننا في العراق». ففي هذه المدينة المضرجة بالدم، باتت مدرسة بغداد للموسيقى والباليه واحة، فهي تزرع في تلاميذها حب الموسيقى والرقص وسط أجواء الحرب. وفيما تلتقط ليثام أنفاسها بين القفزات والتمايلات في استديو آخر في المدرسة، تعبّر عن شعورها بالقول: «أشعر بالسعادة عندما آتي إلى هنا».

بغداد

حتى خلال أحلك الأوقات وأشدّها عنفاً لم تتوقف المدرسة، الوحيدة في العراق التي لا تزال ناشطة، عن تقديم العروض وإرسال المدرّسين والتلاميذ في بعثات ثقافية إلى الخارج.

تُعتبر إحدى الأماكن القليلة المتبقية في بغداد التي تستقبل الأولاد من الخلفيات الاثنية والدينية كلها ليتعلموا معاً، إلا أنها تعجز عن حماية تلاميذها من الفظائع التي تحدث خارج بواباتها الخاضعة لحراسة مشددة، فقد هز العاصمة دوي انفجارات وغارات صاروخية أثناء تدرب الأولاد على بعض الحركات.

وعن هذه المآسي تخبر ليثام، التي ترفض الإفصاح عن اسم عائلتها لأسباب أمنية: «نرى أحياناً أناساً يُقتلون أو يُخطفون ونقلق على أهلنا عندما يقلّوننا إلى المدرسة ومنها».

تملك الحلم نفسه الذي يراود تلاميذ الرقص حول العالم، وهو أن تصبح «مشهورة».

ولكن على خلاف الفتيات اللواتي يعشن في بلدان أقل اضطراباً، تتمرن ليثام على مقطوعات من عروض الباليه الكلاسيكية المشهورة وهي مرتدية الجوارب، لأنها لا تريد أن تتلف حذاءها المخصص للرقص قبل حفل نهاية السنة، فلا متجر لشراء حذاء آخر في بغداد.

تذكر طايي أن معظم تلاميذ الباليه يتركون هذه المدرسة في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرهم لأنهم يخافون المسلمين المتطرفين، الذين يعتبرون الموسيقى كفراً ويقتلون الناس لأسباب أتفه بكثير من الرقص علانية في لباس يظهر شكل الجسم، وفي كل مرة يتغيب تلميذ عن المدرسة، يتصل المسؤولون بذويه ليسألوا عن السبب. توضح طايي، وهي امرأة نحيلة تمتاز بحضور قوي ولا تخاف أن ترتدي ملابس الرقص أمام زوارها الرجال في الاستوديو: «يتحججون دوماً بمشكلة الأمن». وتخبر أنها بكت أياماً عندما اختفت إحدى تلميذاتها الواعدات من دون أي تبرير. تخرجت من هذه المدرسة الحكومية في العام 1984 وعملت مدرّسة فيها. أما الآن فتقول: «أخشى أن نفقد فن الباليه بحد ذاته».

تقدم هذه المدرسة التعليم الابتدائي والثانوي، إلا أنها لم تخرّج صفاً متخصصاً في الباليه منذ منتصف تسعينات القرن العشرين، حين بدأ صدام حسين يتقرب من القادة العشائريين والدينيين المحافظين بهدف دعم حكمه.

حتى لو أتم التلاميذ تدريبهم، لا يتمتع راقصو الباليه بأي مستقبل في العراق. فعروض الرقص المحترفة الوحيدة التي تُتاح للأولاد فرصة مشاهدتها هي العروض المسجلة على شرائط فيديو وأسطوانات DVD في مكتبة المدرسة.

ميليشيات دينية

يواجه طلاب الموسيقى التحديات نفسها، فيترك معظمهم آلاتهم الموسيقية في المدرسة لأنهم يخافون من أن يلفتوا انتباه الميليشيات الدينية في حال حملوها في الشارع، فيحد ذلك من الوقت الذي يمضونه في التدرب ما يؤخر تقدمهم، على حد تعبير أحمد سليم، المدير التقني في المدرسة الذي يشرف على تعليم الموسيقى والرقص وعلى 42 أستاذاً يدرّسون الفنون ويعمل الكثير من هؤلاء بدوام جزئي في المدرسة.

اضطر سليم إلى تبديل مقر سكنه ست مرات ليفلت من التهديدات بالقتل، وهو ليس الوحيد الذي تلقى مثل هذه التهديدات، فقد عمدت المدرسة قبل عامين إلى إنزال لافتتها تجنباً للفت الأنظار.

يُقبَل التلاميذ في المدرسة بعد الخضوع لامتحان، وتُزوَّد الآلات والمعدات مجاناً. كذلك لا تتقاضى هذه المدرسة أي رسوم، تُعطى الدروس الأكاديمية صباحاً ويُخصص بعد الظهر للفن.

قبل تسعينات القرن العشرين، كانت حكومة صدام تدعو المحترفين المهرة من الاتحاد السوفياتي لتعليم التلاميذ، وتستورد كميات كبيرة من الآلات والنوتات الموسيقية وأحذية الباليه. كان التدريب يتقدم على قدم وساق، حتى ان خرّيجي هذه المدرسة انضموا إلى فرق موسيقية وفرق رقص باليه في أنحاء العالم. غير أن الأساتذة الأجانب غادروا عندما اجتاح العراق الكويت في العام 1990 ولم يعودوا. وفيما رزح الاقتصاد تحت عبء العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، بدأت المخزونات الأساسية تنفد. وبسبب ارتباط المدرسة بصدام، هاجمها الرعاع الغاضبون بعد سقوط هذا الحاكم المستبد في شهر نيسان (أبريل) من العام 2003. وما عجزوا عن حمله هشّموه، حتى البيانو الضخم حطّموه بواسطة فأس. ولكن في اليوم التالي، عاد الأساتذة إلى المدرسة، فرفعوا الحطام كي يتمكن التلاميذ من العودة إلى صفوفهم، وصارت المدرسة حالياً تعتمد إلى حد كبير على الهبات من السفارات والمؤسسات الثقافية ومحبي الفن والولايات المتحدة كي تجهز تلاميذها.

يأتي معظم التلاميذ من عائلات مثقفة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وكانت هذه العائلات أول مَن هرب من انحدار المدينة إلى الفوضى بعد اجتياح القوات التي تترأسها الولايات المتحدة قبل خمس سنوات، فتراجع عدد التلاميذ إلى 150، بعدما بلغ ذروته من قبل حين وصل إلى 400 تلميذ، 15 منهم يتعلمون الباليه فحسب. كذلك اضطرت المدرسة إلى مواجهة محاولات وزارة الثقافة الرامية إلى إقفال المدرسة، مع العلم أن الإسلاميين يتحكمون بهذه الوزارة.

تصر نجا حمدي، التي شغلت منصب مديرة المدرسة طوال 20 سنة، على أن هذه العقبات هي موقتة.

وتضيف: «العراق مهد الثقافة، هنا وُضعت الأبجدية الأولى، هنا ولدت الزراعة، هنا سُنَّ القانون الأول. لن تدوم هذه الحروب، لذلك علينا أن نحافظ على حضارتنا وأن نبدأ من جديد».

شجع التراجع الأخير في أعمال العنف الناس على تخطي مخاوفهم.

تُعرِّض هديل يوسف، امرأة تتشح بالسواد، كل يوم نفسها لخطر الانفجارات وإطلاق النار كي تقل ولديها بالسيارة إلى المدرسة من السعيدية، وهي أحد أخطر الأحياء في بغداد. يتعلم ابنها عمرو (8 سنوات) العزف على العود ويدرس ابنها الآخر مجيد (7 سنوات) الباليه.

إطلاق نار

تنتظرهما طوال النهار في موقف للسيارات، ثم تصطحبهما إلى المنزل بعد الظهر. اعتاد رجال الشرطة والجنود إطلاق النار في الهواء لحث السيارات على الإسراع، فتسقط أحياناً قربها رصاصات طائشة، إلا أن ذلك لا يردع زوجة صانع الأحذية تلك عن إحضار طفليها إلى المدرسة. تقول يوسف: «أريدهما أن ينعما بمستقبل أفضل». في أوج القتل الطائفي في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2006، قدمت المدرسة حفلاً للسلام شاركت فيه فرقة العزف والجوقة في المدرسة. أما تلاميذ الرقص فقدموا عرض باليه مميزاً يصف العنف الذي لفّ بغداد، وانتهى العرض بنهضة تمثل أملهم بأن تنهض مدينتهم من بحر الدماء الذي تتخبط فيه. يقول سليم، المدير التقني: «ظنَّ الناس أن المدرسة انتهت، فقدمنا هذا العرض لنبرهن لهم أنهم مخطئون».