تحدق فيك عينا التاجر الإيراني كصقر، يعرف بعد تبادل قصير للحوار معك، إن كنت راغباً في الشراء أم تستطلع لمجرد المشاهدة فقط. وبعد أن يتأكد من فرضية رغبتك في الشراء سيعرض عليك أنواعاً متفاوتة الجودة من السجاد، حتى يعرف مدى إلمامك بالموضوع محل المساومة. وفي دقائق يلاحظ مشاعرك تجاه القطع.

Ad

تذهب البراعة التفاوضية والتكتيكية الإيرانية مثلاً في طول المنطقة وعرضها، فلكل مقام مقال، ولكل ظرف جواب، ولكل هدف وسائل. وهذه البراعة تتجلى يومياً في تصريحات ومناورات السياسة الخارجية الإيرانية التي أعيت الإدارة الأميركية بكل آلتها العسكرية الكاسحة، والتي لم تفلح في حسم صراعها مع إيران في المنطقة. كيف يمكن تفسير ذلك؟. دار هذا السؤال في خاطري وأنا أتجول في بازار طهران للسجاد بحثاً عن إجابة. تقطع السجادة طريقاً طويلاً حتى تستقر في البازار تمهيداً لبيعها، في جولة تمزج التاريخ بعلم الاجتماع بالسياسة، بحيث تكشف المصادر التي ينهل منها العقل السياسي الإيراني المفاوض.

تبرع البنات الإيرانيات تاريخياً في حياكة السجاد، وكلما ازدادت مهارة البنت في الحياكة، ارتفع سعر مهرها عند الزواج، لأنها سوف تدخل معها إيراداً لا ينضب إلى بيت الزوجية. مازالت حياكة السجاد تستقطب قطاعات واسعة من الأطفال في الريف الإيراني، وهي تسبب أمراضاً صدرية فتاكة لا يمكن تجنبها، فصوف الغنم الفائق الجودة تتم معالجته بحيث يكون رقيقاً جداً ليميز دقة السجاد الإيراني اليدوي. وهذه الدقة هي الوجه الظاهر للسجاد اليدوي، أما إذا تفحصت في دورة الإنتاج وشروطه فستجد الوجه المستتر؛ لأن هذا الصوف الفاخر بالتحديد ينفذ إلى رئات الأطفال والبنات العاكفين على الحياكة طيلة سنوات حيواتهم القصيرة.

يشتري متعهد السجاد تصميم السجادة من رسام السجاد الذي يقسم رسمه إلى مربعات تذهب إلى الصانع في منزله فرادى، وعندما ينتهي من حياكة المربع يعود المتعهد ليأخذه منه ويعطيه مربعاً جديداً؛ منعاً لنقل الرسوم والحفاظ على ندرتها في السوق. ويقوم المتعهد أيضاً بتوريد الخامات والأدوات المستعملة في الحياكة ودفع اليوميات، وفي النهاية يحصل على السجادة بالطريقة التي أرادها لجهة التصميم والخامات والجودة، وبعد استخلاص فائض القيمة من السجادة يقوم المتعهد ببيعها للتجار في البازار. يدفع تاجر البازار سعر السجاد نقداً، وهو سعر يبلغ في المتوسط ما بين ربع وثلث سعر البيع النهائي، لأن تاجر السجاد لا يبيع بضاعته يومياً أو حتى أسبوعياً بل على فترات، وهذه الأخيرة يتم حساب فوائدها ضمن السعر النهائي الذي يدفعه المشتري. ولكل ذلك فإن البازار –بالمعنى الاجتماعي الأشمل- لا يعني فقط التجار في البازار، ولا حتى العمال الذين يعملون لديهم في البيع والنقل، بل أيضاً مصالح المتعهدين في الريف. وهؤلاء بدورهم يمثلون مصدر أرزاق الصناع وبائعي الصوف والأدوات والمستلزمات وهكذا في دورة اقتصادية تضم ملايين البشر في إيران.

تحدق فيك عينا التاجر الإيراني كصقر، يعرف بعد تبادل قصير للحوار معك، إن كنت راغباً في الشراء أم تستطلع لمجرد المشاهدة فقط. بعد أن يتأكد من فرضية رغبتك بالشراء سيعرض عليك أنواعاً متفاوتة الجودة من السجاد، حتى يعرف مدى إلمامك بالموضوع محل المساومة. وفي دقائق قليلة تقلب يده بمهارة عشرات من قطع السجاد المتراصة فوق بعضها بعضاً واحدة من بعد أخرى إلى نصفها؛ بما يتيح لك رؤية نصف السجادة وتصميمها. بعد أن يلاحظ مشاعرك تجاه القطع مستخدماً فراسة قُدّت وتشكلت عبر آلاف الزوار وخبرة عشرات السنين، يعود ليعرض عليك القطع التي اخترتها أنت في قرارة نفسك كخيار ثان. يفردها كاملة أمامك معدداً مزاياها ومادحاً مواصفاتها ومطنباً في جمالها. حين تسأل عن سعر ما اخترته أنت كخيار ثان، كي تستنتج سعر خيارك الأول من دون أن تكشفه، سيدعوك التاجر إلى الجلوس ويرسل في طلب الشاي.

يعرف تاجر البازار ما يدور في ذهنك تماماً، فهو قد صنفك من مراقبة حركات جسدك وعينيك، سيتبادل معك المزاح بلغتك أياً كانت قبل أن يعود ليرسم على وجهه طابعاً جدياً. بعد أن تعترف لنفسك بنفاد صبرك وتكشف أخيراً عن خيارك الأول ستجده مجاهداً في السيطرة على لمعان عينيه. سيضع القطعة إلى جانبك ويجعلك تشعر بأهميتها عن قرب؛ لقد دخلت أيها المشتري أخيراً في المرحلة الحاسمة من الصفقة. سيطلب أثماناً كبيرة لقاء ما تريد، ثم سيدخل في روعك أن ما عرضت أنت من سعر يبدو مقبولاً لديه قبل أن يعود ليماطلك من جديد. تنهمك مجدداً في المساومة ليقلب وجهه ويحطم تصوراتك برفضه لسعر بدا قابلاً هو به من قبل. سيرغبك في نعومة مثل حرير سجادته وسيرهبك بفقدانك للقطعة التي أحببت واستثمرت فيها وقت المساومة. سيُبقي الآمال معقودة ومتلاشية في آنٍ معاً، تتخلى عن خطوط دفاعاتك وحدود أسعارك رويداً رويداً وحين يتيقن بالفعل أن عرضك الحالي هو الأخير سيوافق بتأنٍ وأنت له من الشاكرين. تخرج من البازار حاملاً جائزتك الكبرى وهو يودعك بابتسامة من يفكر بالتراجع في الصفقة. تدفعك ابتسامته لتسرع خطاك خارجاً من البازار حاملاً سجادتك والإجابة عن السؤال أعلاه!.

* كاتب وباحث مصري