نرى الشرق الأوسط حالياً وقد تحول إلى المختبر، أو المتحف المتبقي في العالم لتطبيقات مصادر الشرعية التي اعتمدها ماكس فيبر وأكل الدهر عليها: الزعيم الملهم المحبوب، والبنية التقليدية الموروثة للسلطة، أو الشكل العقلاني الأحدث نسبياً.

Ad

تبدو شعوب الشرق الأوسط ونخبها المختلفة غائبة عن الوعي أو تكاد، في الوقت الذي يحتدم فيه النقاش الخفيّ والعلني حول الخيارات السياسية لمستقبل المنطقة، فيما بين خطين يتمايزان ويمتزجان من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان؛ أولهما: يجمع من يميلون إلى تغليب عامل «الاستقرار»، ولا يريدون بذلك مجرّد الحفاظ على الأمن الإقليمي والدولي من خلال الاستمرار بتبريد الاحتكاكات في المنطقة وحسب، بل العودة إلى أسس توازنات نصف القرن الماضي، الذي كان فيه الاعتماد أساسياً على أنظمة تتحكم كلياً بشعوبها، وتضمن من ثمّ سلامة تدفق النفط وطرقه، وتميّز موقع إسرائيل وتفوّقها. وثانيهما: يقع بقوة تحت تأثير المتغيرات العالمية الشاملة، وأكثرها إثارة وديناميكية ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، وتقدم مسألة مكافحة الإرهاب الدولي إلى المقدمة. والنقاشات الأميركية والأوروبية - التي تحتدم في المناسبات الا نتخابية خصوصاً - تستند إلى أحد هذين الموقفين أو التوفيق بينهما بطريقة ما. لكن التغيير ذاته كاتجاه عالمي يبدو شاملاً ونهائياً.

وإذا كانت الحالة الجديدة للعالم تستبعد «الثورات» كطريقة للتغيير، فلم يعد هنالك إلا الضغوط السلمية الداخلية، التي تعتمد أساليب ديموقراطية في حراكها برغم حرمانها منها سياسياً، أو الضغوط الخارجية المتنوعة، أو تراجع السلطات الحاكمة المنتظم عن سياساتها القديمة وسلوكها طريق التغيير والمصالحة بالتدريج وبانتظام وخطى جدية. وربما بامتزاج أيضاً ما بين طريقتين أو أكثر من الطرق المذكورة.

تبقى الطريقة الثالثة مطروحة مع كل شيء، رغم اليأس المتفاوت ما بين بلد وبلد، في حقل التحليل والمنطق والرغبات الدفينة التي تفضل السلامة والأمان ومقولة «الصلح خير». وذلك على الرغم من أن هذه الرغبات لا تعبر عن نفسها سياسياً بالصراحة والوضوح ذاتهما.

ولكن الرغبات العميقة شيء، وما هو على الأرض شيء آخر. فهنالك عناد محدود في بعض البلدان، وعناد غير محدود، بل منغلق، في بلدان أخرى.

مع أنه من المنطقي في العلوم السياسية أن الأنظمة تلجأ إلى الإصلاح والتحول إلى الديموقراطية عندما تواجه بشكل متفاقم أزمة في شرعيتها، نرى الشرق الأوسط حالياً وقد تحول إلى المختبر أو المتحف المتبقي في العالم لتطبيقات مصادر الشرعية التي اعتمدها ماكس فيبر وأكل الدهر عليها: الزعيم الملهم المحبوب، والبنية التقليدية الموروثة للسلطة، أو الشكل العقلاني الأحدث نسبياً.

نحن لا نحتفظ بهذه الأشكال وحسب، بل نمزج ما بينها حديثاً بسخرية فظيعة. فالزعيم الذي أصبح عتيقاً وتفسّخت الكاريزما التي كانت لديه، مال إلى اعتبار شرعيته قد اكتسبت قوة «التقليد» والاعتياد والاستمرار والتملّك وحق العائلة وبديهية التوريث. ولا بأس ببعض المكرمات العقلانية المتنوعة من حين إلى آخر، مع إبقاء سيف التسلط والقمع واضحاً وجاهزاً، ويُختبر بين فترة وأخرى حتى لا يصدأ.

في حين أن مناط الشرعية هو قبول المحكومين بالحاكم، وشكل ذلك هو التمثيل والانتخاب إلخ... ومن ثم تتولد أزمة كبيرة في الشرعية، تكون أكبر ما تكون عندما لا يدرك الحاكمون المعنيون أنهم في هكذا أزمة، ولا يسلمون بالحاجة إلى الإصلاح السياسي والديموقراطية والتقارب من العصر.

ومن ناحية ثانية، من الطبيعي حسب علم العلماء والحكمة الشعبية الموروثة، في حال الخطر الخارجي، أن تلجأ الأنظمة السياسية إلى فكّ طوقها عن شعبها، وتطلق سراح من تأسره، وتشيع أجواء الصلح والوحدة والنوايا الطيبة. لكن أنظمتنا لا تفعل ذلك، بل عكسه أحياناً، على الرغم من أن جميع المؤشرات تشير إلى أنها كلها واقعة تحت هذا الخطر، وإن بمقادير متفاوتة وطرق مختلفة.

أخيراً، يتغير العالم بالتأكيد، وتتغير مواصفاته، مع ازدياد دور العوامل الجامعة، والانفتاح ما بين الحدود الثقافية والسياسية والإعلامية وبالطبع الاقتصادية. فلا يمكن الاستمرار في قوقعة منعزلة عن الآخرين، وما كان يستغرق عقوداً سوف يتحقق في سنين. فالنظام السياسي الأذكى هو الأكثر قدرة على التكيف مع هذه المتغيرات، وهو الذي سوف يكسب مستقبله ويبقى له من ثقافته ما يحرص عليه ويخشى.

وعلى الرغم من كل ذلك الصراخ وتلك الوقائع، لا فائدة. فهل هو الفالج، لا تُعالج؟! أم أن المسألة تحتاج إلى حلول أخرى مختلفة، أكثر عصرية وروحاً عملية، تفتح لدور سياسي معارض وشعبي، وتسهم في تحويل الدور الخارجي الضاغط إلى اتجاهات أكثر عقلانية وإيجابية؟!

غريب أن تتقاعس الأنظمة التي تحسب أن لديها بعض أسباب «الراحة» (في غالبية دول المنطقة)، وعجيب أن يشعر نظام باسترخاء ( في سورية... وربما في إيران أيضاً)، وهو لا يملك شيئاً من هذه الأسباب!

* كاتب سوري