لم يستطع حزب الله الشيعي اللبناني ان يقنع شركاءه في الوطن من الطوائف الاخرى بالنصر الذي حققه ضد العدو الاسرائيلي وبقي الأمر رهنا بالزاوية التي ينظر منها اي فريق الى هذا الانتصار. ومما لا شك فيه ان ارتباطات حزب الله الخارجية وتحالفاته بقيت مصدر شك وارتياب لدى فريق كبير من اللبنانيين لا يرى في هذا الحزب الا امتدادا للخارج وبخاصة لإيران. وهم يرون ان حزب الله يجر الطائفة الشيعية خلفه ويعدمها كل مواردها الداخلية ويكشفها على الخارج كشفاً متمادياً فلا تعود قادرة على اداء دور فاعل في الداخل من دون الارتهان الكامل للخارج ما قد يتغير بحسب الظروف والتحالفات.لم تكن حرب يوليو 2006 الحرب الوحيدة التي انتجت خلافاً حول معنى النصر الذي حققه حزب الله ضد العدو الإسرائيلي. حروب حزب الله دوماً كانت تحمل هذا المعنى، اقله بالنسبة لمناصري الحزب نفسه، قيما ومبادئ وتطلعات. حزب الله كان دائما منتصرا وكان دائما مهزوما، والهزيمة والنصر يتعلقان بزاوية النظر التي يريد المرء ان ينظر منها إلى هذه الحروب. فإذا ما كان الناظر يضع نصب عينيه تطور البلد الديموقراطي وانتاج تسوية وطنية قابلة للتطور والنمو، فإن الهزيمة تبدو والحال هذه لا قاع لها. ذلك انه من هذا المنظور بالضبط، فإن مجرد صدور حزب الله عن طائفة معينة وتغلغله في نسيجها الاجتماعي والسياسي يجعل هدف التطور الديموقراطي ابعد منالاً مما تطاله اي فئة. فوجود حزب الله قيد التأثير السياسي في لبنان، مثله مثل القوى السياسية الطوائفية الراجحة الوزن اليوم، يضع قيدا ثقيلا على اي احتمال لتطور ديموقراطي من اي نوع. وبخلاف النظرات المسطحة الرائجة لدى عموم الشعب اللبناني والمتعلقة بفهم الشعب اللبناني ونخبه لمبادئ الديموقراطية وطرق عملها، فإن خروج الحزب من حضن طائفي يتغذى من شرايين بيولوجية اولاً وتقرر احكام الجغرافيا اللبنانية دوره في البلد ثانيا، يؤدي حكما ومن غير لبس ولا تضليل إلى سفح الأحلام الديموقراطية على حليبها قبل ان يتسنى لها الفطام.بيولوجيا الحزب حزب الله يتغذى من مصدر بيولوجي لا ينضب، ولا يستند في تقرير دوره وموارده في البلد إلى مصادر علمانية، بالمعنى الذي يجعل من تغير احوال هذه الفئة الاجتماعية او تلك ممكنا بغير الهجرة او الموت في الحروب او الاوبئة. ذلك ان مصدر القوة الذي يتغذى منه هذا الحزب، وغيره من القوى الطائفية ايضا لم يشهد اي تغيير نوعي على امتداد التاريخ اللبناني. والحال ليس ثمة في لبنان صراع طبقات اجتماعية تتغير ادوارها فتضمحل او تنشط بحسب نشاطها الاقتصادي والثقافي والسياسي. على النقيض من ذلك تماماً، فإن حزب الله يشهد نزفا من نخب الطائفة التي يصدر عنها على الدوام، بل وان قدرته على المساهمة في اغناء ثقافة البلد العامة تكاد تكون معدومة. ويقتصر دوره في الداخل اللبناني على قدرته على التعطيل وهذا ما اشار إليه امينه العام محقاً اكثر من مرة. فالطوائف الحاشدة بجماهيرها تستطيع ان تعطل دائما لكن دورها في البناء يحتاج تضافر ظروف لا تحصى، داخلية وخارجية، حتى يتسنى لهذا الطرف الطائفي او ذاك ان يتنطح لدور مهيمن يلقى قبولا من الفئات الأخرى على ما كانت عليه حال الموارنة اللبنانيين في بداية القرن الماضي وحتى منتصفه بالتمام والكمال.الناظر وعينه إذاً لا يمكن اعتبار حروب حزب الله انتصارات بالمعنى الذي يهتم العلمانيون الديوقراطيون لمسارها. من ناحية ثانية لا يبدو الانتصار على اسرائيل وتدفيعها اثماناً باهظة في كل مغامرة عسكرية تقوم بها في لبنان مهماً للطوائف الأخرى، فالموارنة اللبنانيون ما زالوا يتأتئون حين يريدون وضع كلمة العدو قبل كلمة الإسرائيلي. ولا يقع هذا التردد في الموقع الذي يحاول حزب الله ان يصوره بوصف الطائفة المارونية شعب من العملاء حتى اثبات العكس، ذلك ان اتهام طائفة برمتها بالعمالة امر لا يقره عقل ولا منطق. بل لأن الموارنة اللبنانيين كانوا على الدوام يستشعرون الخطر على استقلال لبنان، وهم بناته الأساسيين، من مصدرين اكيدين: القومية العربية التي شهدت ذروة نهضتها وانتشارها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، والغرب الذي يريد استعمار العالم الثالث من دون تمييز بين اهله وطوائفه. والارجح ان الموارنة حين يخيرون بين استعمار غربي وعربي فإنهم، لأسباب مفهومة، يفضلون الأول على الثاني. ذلك ان الثاني يصادر دروهم كاملاً ولا يترك لهم تحت شمس السياسة اللبنانية مكاناً يستظلون فيه. وربما يكون التيار الوطني الحر بين التيارات المارونية هو التيار الوحيد تاريخيا الذي استند إلى دعم شرق اوسطي حين تخلى عنه الغرب. فميشال عون عقد صلات تحالف وتسلح مع صدام حسين في نهاية ثمانينيات القرن الماضي يوم خاض مغامرته التي أدت إلى نفيه في فرنسا، واليوم يستند إلى دعم ايراني– سوري، يكاد يعصى على افهام المؤرخين. لكنه في الأصل ينطلق من تخل غربي عنه من ناحية اولى ومن خوف شديد من تطور احوال الطائفة السنية في لبنان واتساع رقعة نشاطها الاقتصادي والثقافي بما ينذر باضمحلال دور الموارنة على هذا الصعيد. وإذا ما عطفنا ذلك على الخوف الماروني الأصلي من الهيمنة العربية على لبنان، وتفضيل المستعمر الغربي على المهيمن العربي، فإن اتجاه التيار العوني يصبح مفهوماً بهذا المعنى، ذلك ان المشروع الامبراطوري الإيراني يهدد في نهاية المطاف المشروع العربي ولا يطمح من مقارعته اميركا إلا إلى تحصيل مكان اوسع تحت شمس امبراطوريتها الكبرى على حساب المشروع العربي نفسه.الصعود على الماضي والحال فإن الناظر بعين الماروني سواء كان منتمياً إلى حركة 8 أو 14 مارس (آذار) لن يجد في تضحيات حزب الله نصراً من اي نوع. بل ان الجنرال عون المتخوف من هيمنة سنية-عربية على الوطن الصغير، يحسب ان المستقبل في جعبته بعكس حزب الله الذي يمارس دورا آفلا بكل معاني الكلمة. فقوة حزب الله المفرطة عسكرياً على المستوى اللبناني لا هدف جوهريا لها قد يجعلها ذات مستقبل مأمون. والحق ان مغامرات القاعدة وحماس لم تنجح حتى الآن في تغيير المزاج العربي والعالمي العام، الذي ما زال يعتبر أن حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية ينهي هذا التاريخ الدامي من الصراع بين الجانبين. فلن يُرمى اليهود في البحر حتى لو نشطت القاعدة في كل مكان، ولن تزول اسرائيل من الوجود حتى لو كان الرئيس الإيراني احمدي نجاد اكثر حصافة وعمقاً واقل شعبوية مما هو عليه. وواقع ان حزب الله يقاتل من اجل مزارع شبعا، فقط، ويختزن كل هذه الترسانة في باطن ارض الجنوب، يجعله آجلاً ام عاجلاً اسير تهمة قوته المفرطة. بل ان التهمة باتت جاهزة وعلى كل شفة ولسان، واليوم يناضل حزب الله جاهداً لينفي عن نفسه تهمة الإرهاب، ذلك ان الهدف لا يستقيم مع الوسيلة في نشاطه السياسي والعسكري على حد سواء. لذلك لم يكن مستغرباً ان ترسي حرب يوليو هدنة جديدة ذات معادلات معكوسة، فقبل يوليو 2006، كان الجنوب اللبناني يعيش تحت احكام هدنة متوترة تقطعها بين الحين والآخر عمليات تذكيرية في مزارع شبعا ومحيطها، لكن حق اطلاق الطلقة الأولى كان معقوداً طوال السنوات الست التي اعقبت انسحاب اسرائيل من معظم الجنوب اللبناني لحزب الله. الحرب الاخيرة اتت لترسي هدنة ذات مفاعيل مغايرة، حيث ان حزب الله فقد القدرة والحق على القيام بعمليات تذكيرية، واكتسبت اسرائيل هذا الحق بوصفها البلد المعتدى عليه دولياً بموجب قرارات الامم المتحدة. وحزب الله يلتزم هذه القرارات حتى الآن بحرفها.مقصلة الإرهاب الخلاصة من كل هذا السرد ان حزب الله بعد هذه الحرب بات، وبسبب من تسلحه المفرط وعسكرته للمجتمع الشيعي عموماً، اقرب إلى ان يدان بتهمة الإرهاب. وهو يدافع دفاعاً مستميتاً عن صفته كمقاومة من غير جدوى في كثير من الاحيان. وهذا يعني مارونياً ان هذا الحزب لا مستقبل له، وانه يمكن ان يكون مطية مناسبة ترتفع على ظهرها اسهم الطائفة المارونية مجدداً في مواجهة امتداد سني يملك من الموارد المحلية والخارجية ما يؤهله للهيمنة على لبنان عموماً، رغم قوة هذا الحزب العسكرية والامنية التي تفوق الوصف اللبناني على اي حال. والحال، فإن الناظر إلى حزب الله من كسروان، موطن الموارنة اللبنانيين، يجد انه آيل إلى الزوال، وليس مستغرباً ان يعمد شطر واسع من الموارنة إلى محاولة استعماله مطية في مواجهة المد السني المخيف.السنة اللبنانيون من جهتهم كانوا طوال العقود التي خلت من عمر الاستقلال اللبناني اكثر طوائفه تطلباً للعلاقة الأوثق مع العالم العربي. وهذه الطائفة هي التي احتضنت المقاومة الفلسطيينية طوال الربع الثالث من القرن الفائت، ويوم ودعت بيروت المقصوفة والمنهكة المقاتلين الفلسطينيين عام 1982نثرت عليهم الأرز بينما كانت ضاحية بيروت الجنوبية تتفرج على بيروت المحروقة وكان ثمة في بيروت الشرقية من يساعد جيش الاحتلال ويكمل مهامه. والحق ان الصراع العربي-الإسرائيلي خُتم لبنانياً يومذاك على حرب عربية-اسرائيلية ناقصة. تُرك البلد وحده يومذاك وعرف اللبنانيون انهم يخوضون آخر معاركهم ، ولذلك قرروا ان يخوضوها ببسالة، ما زالت الذاكرات تشهد لها من كل حدب وصوب. تلك الحرب كانت بحق آخر الحروب العربية-الإسرائيلية. اما ما اتى بعدها فكان مشتبهاً في مقاصده العربية. ذلك ان حروب حزب الله التي خاضها كانت على الدوام برعاية ايرانية، وهذا ما لم يكن يخفيه قادة الحزب ومفوهوه. وإذا كان حزب الله اليوم يعلن انه يشك في ارتباط وجهاء الطائفة السنية بمشاريع خارجية تارة تكون عربية وتارة اميركية فإن اللبنانيين يعلمون علم اليقين ان حزب الله ينفذ روزنامة مشروع خارجي، وبين الشك الذي يبديه حزب الله حيال فريق 14 مارس (آذار) واليقين الذي يعرفه القاصي والداني لجهة ارتباط حزب الله بمشاريع خارجية ثمة برزخ متسع كالذي يفصل بين المؤمن والكافر.الاشتباه السني على اي حال، ولهذه الأسباب مجتمعة، يشتبه السنة اللبنانيون في مشروع حزب الله من جهتي الاشتباه الأخطرين على لبنان العربي ولبنان المستقل. فمشروع حزب الله كما بات يعلن قادته ويسرون ليس محصوراً في مزارع شبعا اللبنانية بل هو يرتبط بحلف معلن يقارع اميركا بحثاً عن دور اوسع ويليق بحجم ممثله الأساسي في طهران. والحق ان السني اللبناني يحق له ان يشتبه في مترتبات مستقبل هذا الصراع ومرساه الاخير. فلو سلمت الولايات المتحدة فعلاً بدور ما لإيران فإن ذلك سيفتح الباب واسعاً على تسليم مماثل لدول أخرى بأدوار اقليمية متوازنة. ذلك يعني ان مصر ستحاول انتزاع دور في افريقيا وغزة على حد سواء، وتركيا ستحاول انتزاع دور في جوارها الكردي العراقي وربما في بعض جوارها السوري، والمملكة العربية السعودية ستدافع عن نفوذها في منطقة الخليج العربي والمملكة الاردنية الهاشمية، وحيث ان العراق غائب ومحتضر ولا دور يؤمل له، وسورية باتت ساحة يتلاعب بها الجيران اكثر مما هي دولة ذات دور يتجاوز حدودها، فإن المنطقي ان تطمح اسرائيل لتحقيق منطقة نفوذ خاصة بها تمتد من الضفة الغربية مروراً بدمشق ووصولاً إلى بيروت. الامر الذي يعني ان نصراً ايرانيا مؤزراً في هذا الصراع الذي تخوضه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد الولايات المتحدة يعني من دون لبس اخراج المارد العسكري الإسرائيلي المتوحش من قمقمه، ومد سلطانه على جواره بموافقة ايرانية اولاً وفي الأساس. في هذه الحال، ما الذي سيكون عليه دور حزب الله؟ وهل سيقاتل منفرداً ومن دون دعم من اي نوع؟ الأرجح ان الاحتمالات كلها مطروحة، وتاريخ الطوائف في لبنان يوضح من دون لبس ان صفتها الأساسية هي التقلب. فلا ميشال عون كان سورياً ولا وليد جنبلاط كان اميركياً، وليس غريباً والحال هذه ان تتحول بندقية حزب الله عن دورها الحالي لتمارس نقيضه على اتم وجه. لهذا كله يحق للسنة اللبنانيين الاشتباه بهذا الحلف وبالانتماء إليه، ولهذا كله ايضاً يعرفون ان حزب الله وهو يجر الطائفة الشيعية خلفه يعدمها كل مواردها الداخلية ويكشفها على الخارج كشفاً متمادياً فلا تعود قادرة على اداء دور فاعل في الداخل من دون الارتهان الكامل لخارج ما قد يتغير بحسب الظروف المحيطة.خلاصة القول ان حزب الله منتصر ومهزوم معاً. منتصر كقوة عسكرية هائلة إذا ما قيست على موارد الشعب اللبناني ودولته، ومهزوم شر هزيمة لأن هذه القوة بالضبط قد تكون الخاصرة الرخوة التي ينفذ منها الخارج، كل خارج إلى قلب البلد ورئتيه فيقطع عنها الهواء، وقد يكون ايضاً إذا ما استمر متمسكاً بالمبادئ التي ينادي اليوم بها سبباً في سحل الداخل اللبناني وجعل موازين الطوائف مختلة اختلالاً ساحقاً في غير مصلحة الشيعة بكل تأكيد
دوليات
حزب الله بندقية للإيجار أم طليعة طائفة منتحرة؟
11-07-2007