ما الذي يضير المظلومين والمحرومين والمحجور عليهم والأسرى والرهائن، في تحول العالم إلى قرية صغيرة؟! ربما لن نخسر قيودنا، ولكننا سوف نصبح أسرى بقيود حديثة ومعاصرة ومن دون تعذيب، وحلفاء لأسرى العالم المتقدم، وشركاء في الحلم ومحاولات إنقاذ العالم من أخطاره الكبيرة المشتركة. في أوائل القرن التاسع عشر تسارعت الرأسمالية الصناعية في تقدّمها، ووظّفت لديها أعداداً متزايدة من العمال، أخذت تستغلهم حينذاك بأبشع الأشكال وأشدها وحشية. كان رد الفعل الذي حدث، وبتشجيع من طليعة مثقفة وثورية، هو الدعوة إلى تحطيم الآلات، التي رأت فيها مصدر الظلم الذي حاق بها. ولم ينتبه أولئك العمال ومن دافع عنهم من المفكرين والمثقفين إلى أنهم بموقفهم ذلك كانوا يقفون ضد التقدم ذاته، وإلى أن مستقبل العمال يمكن أن يكون من خلال الصناعة والتكنولوجيا مفتوحا على عالم الخيرات والوحدة والقوة. وقف آخرون من أهل العلم أنصار العمال والتقدم في وجه محطمي الآلات هؤلاء واتهموهم بالرجعية والالتقاء مع الإقطاعيين من أرباب الأنظمة التي كانت قد أصبحت متخلفة ورجعية وغير ذات شأن مع قضية التحديث والتقدم.وفي أوائل القرن العشرين تحولت الرأسمالية إلى طور إمبريالي، فقال أقوى أنصار العمال والفقراء هذه المرة إن السهام يجب أن تتوجّه نحو هذه الإمبريالية بذاتها، بما في ذلك تركيزها للاستثمارات الصناعية والمالية وفتحها الأولي لحواجز العالم. وحين قال بعض أولئك إن المشكلة ليست في التطور الإمبريالي نفسه، بل في أولئك الرأسماليين العتاة، وأن انفتاح العالم يسهم في تطوّر الأطراف بشكل أقل تفاوتا، وفي قوة أهل الخير كما أهل الشر... حينذاك اتهمت جمهرة الثوريين من قال هذا بأنه متآمر لعين و«كلب ابن كلب».الآن تتكرر القضية مع العولمة. فبينما يقول مفكّر عربي إن العولمة هي «... نظام سياسي واقتصادي يعمل على ابتلاع الأشياء والناس وتقيئهم سلعاً، بحيث تنتفي كل الهويات التي تكونت في تاريخ البشرية ما عدا هوية الانتماء إلى السوق»، يقول آخر عنها إنها «... هي التعين الراهن للرأسمالية العالمية، الرأسمالية بما هي تشكيلة قائمة على التوسع خارج المراكز الأساسية، ويساعد الرأسمالية الآن تحول العالم إلى قوى منتجة طاغية في هذا العالم وتحول الشركات الصغيرة إلى شركات ما فوق قومية تمارس هذه المراكز الإمبريالية الجديدة نفس طريقة الهيمنة على العالم، لكن في إطار المصلحة بين الدول القطرية والعولمة» من دون الحديث عن جانب العولمة الآخر الذي يؤمِّن وصول المعلومات والأنظمة والحقوق وإمكان التضامن... يحمل كثيرون عندئذ راية الكفاح ضد العولمة بذاتها، وليس ضد مفرزاتها ونتائجها اللا إنسانية وحسب، فيقفون في صف ظالميهم وعازليهم المحليين في وجه ذلك الغازي الغريب الذي لا يملك وجها ولا قواما.ما الذي يضير المظلومين والمحرومين والمحجور عليهم والأسرى والرهائن، في تحول العالم إلى قرية صغيرة؟! ربما لن نخسر قيودنا، ولكننا سوف نصبح أسرى بقيود حديثة ومعاصرة ومن دون تعذيب، وحلفاء لأسرى العالم المتقدم، وشركاء في الحلم ومحاولات إنقاذ العالم من أخطاره الكبيرة المشتركة، التي سوف تطبق على الجميع شيئاً فشيئا، وبوتائر متسارعة قد تسبق ضوءنا الخافت.من يعادي تحول العالم إلى قرية هو نفسه الذي يعادي تحول البادية والقرية إلى مدينة، ويحول المدينة إلى بادية وقرية، بدأب ما بعده دأب.وليس ما يُدعى بترييف المدينة -وقد شاع المفهوم وفشا بحق وبغير حق- عين هجرة الريف إلى المدينة، كما يحسب الكثيرون من المدافعين عن أصالة المدينة وتراثها ونقاء عنصرها، بل هو تفريغ المدينة - أو القرية- من محتواها الحضاري بمفاهيم الفرد الذي هو وحدة المجتمع الأولى التي لا تتجزأ ولا تنحلّ في غيرها، والمواطنة بما تعنيه من حقوق وواجبات متساوية، وسيادة القانون واستقلال القضاء، وقبل أيّ شيء آخر، أن يكون أولو الأمر في الوحدة الاجتماعية هذه منتخبين ومن ثمّ ممثلين للمواطنين الآخرين، وأن تكون هنالك أنظمة وقواعد لمصلحة الجماعة من دون تضييع حقّ الفرد وحريّته.مدنيّة المدينة في وجود المجتمع المدني، ذاك الذي اشتُقّ اسمه منها، وفي تنظيم سكّان البناء لنظافة بنائهم وسلامته، كما قال أنطون المقدسي ذات مرة، وفي أن يكون المشاة لبّ قوانين السير وأنظمته، وفي ألا يكون العمدة حاكماً بعقلية الشيخ أو الأب أو السيد المستبد بالأمر، بل ذلك الحريص على أن يُعاد انتخابه من خلال عمله لمصلحة المدينة، الخائف من الناخب ودافع الضريبة أن يخلعه. لأنه عندما لا يكون الأمر كذلك، تكون المدينة قرية أو ركناً في بادية، حتى إن جاورت عيون الماء والنفط.إذا انعكس المقام والمقال تكون القرى مدناً. ولو لم يكن المصطلح العربي قد فرض نفسه مع الزمن، لسمّينا المدينة حين تكون مدينة شيئا، وحين لا تكون مدينة على ما سبق القول شيئا آخر، كما فعل الأوروبيون من قبل، وكما أشار جان جاك روسو في كتبه المملة.* كاتب سوري
مقالات
العالم قرية صغيرة...المدينة قرية كبيرة
25-09-2007