النظرة العربية إلى أوروبا وقبلها إلى روسيا والصين إنما تعاملت معها بصورة رومانسية-أيديولوجية انشغلت في الأساس بالمواقف الأميركية والأحلام العربية متوهمة لصراعات قادمة وخلاص للعرب ونصرة من دون إدراك لحقائق القوة ومساحات التعاون والصراع بين قوى عالمنا الكبرى. يتولد لدى المتابع للكتابات في الصحافة العربية والعديد من برامج الفضائيات السياسية انطباع مؤداه أن الحديث عن الدور الأوروبي قد أضحى بمنزلة لازمة لانتقاد السياسات الأميركية في عالمنا والبحث المضني عن مواقف دولية مغايرة، وبالتبعية عن بدائل غير ذاتية، للخروج من المأزق الراهن للأنظمة والحكومات العربية في ظل توجهات إدارة بوش منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001. يتوارى في العديد من الأحيان التعامل النقدي مع مشكلات السياسة والمجتمع في الدول العربية خلف ستار - قاتم اللون في الأغلب الأعم – تنسجه أحاديث متواترة عن مصالح القوى الكبرى في العالم وانعكاسات خلافاتها على قضايا المنطقة التي تبدو كأنها ساحة مفرغة من الفاعلين المحليين وقابلة لفعل أطراف خارجية بالأساس. ثم يصبح تحقق المصالح العربية (وبغض النظر عمّن يحدد كنهها ومضامينها) مرهوناً في هذا السياق الفكري بوجود قوى أجنبية موالية للعرب (توصف عادة بالمحايدة أو العادلة حيث الحياد والعدالة يعنيان كجوهرين الانتصار للحق المطلق وهو بالتأكيد العربي) وقادرة على مقاومة المخططات الأميركية ويصير بالتبعية أسيراً للمنطق التبسيطي اختلاف الأعداء أو الغرباء رحمة.تبلورت في هذا السياق صورة جديدة للاتحاد الأوروبي على أنه قطب صاعد ينافس بالفعل، أو على وشك منافسة، الولايات المتحدة كقوة عظمى. المؤسف هنا هو أن مثل هذا الإدراك يُغيّب العديد من الحقائق المرتبطة بالوزن السياسي الفعلي للاتحاد الأوروبي وخلافات، بل وصراعات، أعضائه وكذلك واقع الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة وأوروبا وحدود الخلاف بينهما والمصالح الأوروبية في الشرق الأوسط.وواقع الأمر أن رحلة البحث العربي عن قطب أو أقطاب بديلة يناط بها مهمة مناوئة الولايات المتحدة ومعارضة سياستها في الشرق الأوسط بدأت مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. وحطت الرحال قبل القارة الأوروبية في آسيا تارة، وفي العالم الإسلامي، ككتلة توهم اتحادها، تارة أخرى. أما أوروبا فقد غابت في البداية عن هذه السيناريوهات المستقبلية واستوعب دورها السياسي في إطار المقولة الرائجة في حينه والمتحدثة عن «عملاق اقتصادي وقزم سياسي». ولم يأت الدور عليها بصورة واضحة إلا في أعقاب الغزو الأميركي للعراق والذي تبلورت معه بعض المواقف الأوروبية المغايرة لسياسة القوة العظمى.والحقيقة أنه بعد مرحلة قصيرة نسبياً من التضامن مع الولايات المتحدة ومحاولات للنقد الذاتي وللنظر في المسببات المحلية والإقليمية للراديكالية الدينية بعيداً عن القوالب الجاهزة من شاكلة الصراع العربي- الإسرائيلي والإمبريالية العالمية في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001، بدأت في سياق شعور عام بالخطر والتهديد إزاء النوايا المعلنة للإدارة الأميركية رحلة البحث في الكتابات العربية عن القطب البديل المتعين عليه مواجهة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وتحويل بنية النظام العالمي من الأحادية إلى التعددية القطبية. ووقع الاختيار في لحظات التخبط الأولى على روسيا والصين. وتوقع عدد كبير من المعلقين العرب صراعات ومواجهات بين الدولتين والغرب المتكالب على الوجود العسكري في الشرق الأوسط وآسيا. خاب الأمل العربي سريعاً في الاتحاد الروسي مع تبيّن عدم فاعلية معارضته للسياسات الأميركية، في حين صمدت الصين في المخيلة العربية لفترة كقطب مناوئ محتمل. ولم تشفع تأكيدات المسؤولين الصينيين أنفسهم على أن بلدهم ليست بقوة عظمى ومازالت تئن تحت وطأة العديد من الضغوط الاقتصادية ولا ترغب في الدخول في صراعات مع الولايات المتحدة لتغيير القراءة العربية لدور الصين العالمي. واستمر الأمر على هذا المنوال حتى ظهر بصورة جلية أن الصين غير راغبة أو قادرة (ينبغي عدم تجاهل المساحة المتزايدة من العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين) على القيام بدور فعال للحد من الهيمنة الأميركية واستقر التوجه العام للنقاش العربي بعد سلسلة مراجعات بأقلام نقدية على أن الصين تمر الآن بمرحلة بناء قوتها ولن تتمكن في المستقبل المنظور من المنافسة على قيادة العالم.الخلاصة... ان النظرة العربية لأوروبا وقبلها لروسيا والصين إنما تعاملت معها بصورة رومانسية- أيديولوجية انشغلت في الأساس بالمواقف الأميركية والأحلام العربية متوهمة لصراعات قادمة وخلاص للعرب ونصرة، حتى وإن كانت جزئية، من دون إدراك لحقائق القوة ومساحات التعاون والصراع بين قوى عالمنا الكبرى.*كبير باحثين بمؤسسة كارنيجي السلام - واشنطن
مقالات
العرب والولايات المتحدة أو البحث عن منقذ
01-10-2007