يبدو حكام العرب على اختلاف توجهاتهم وطبائعهم شديدي التردد في ما يتعلق بالاختيارات الاستراتيجية حول الشكل المستقبلي لنظم الحكم ومنطق إدارة علاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين، فلاتزال العقلية الأمنية المعنية في المقام الأول بالحفاظ على استقرار الحكم، هي المهيمنة على مقاربة النخب العربية. ما لبث تعثر عملية التحول الديموقراطي في العالم العربي، وظواهر مثل استمرارية مسلسل الاغتيالات التراجيدي في لبنان غير المستقر وعزوف الناخبين عن المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة في المملكة المغربية وهي من بين إرهاصاته، يثير العديد من التساؤلات ويحفز على التدبر في النماذج الناجحة لصعود الديموقراطية خارج عالمنا، بحثاً عن استجلاء مصادر الخلل.وواقع الأمر، أن النظرة المقارنة الى الخبرات العالمية للتغير السياسي في الربع الأخير من القرن الماضي تظهر بجلاء محورية أنماط أربعة رئيسة في الدفع نحو عملية انتقال حقيقية من نظم حكم سلطوية إلى حكومات ديموقراطية وإضفاء شرعية مجتمعية عليها، وهي؛ شرعية لحظة التحول الاستثنائية، وشرعية الرمز التاريخي، وشرعية النخبة الحاكمة، وأخيراً شرعية مؤسسات الدولة.فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعبر خبرة دول وسط أوروبا وشرقها في النصف الأول من التسعينيات عن إمكان نجاح عملية التحول الديموقراطي في ظرف تاريخي شديد الاستثنائية، تنهار الكتلة الاشتراكية السابقة على وقع انتفاضات شعبية ويتفكك الاتحاد السوفييتي، ويختفي نسق القطبية الثنائية، وتولد من رحم هذه التغيرات كلها، وفي فترة زمنية وجيزة، نظم سياسية تعددية تمارس الديموقراطية الليبرالية برشادة مشهودة. من جهة ثانية، يدلل نموذج التغير السياسي الأقدم نسبياً في عدد من الدول الأوروبية في عقد السبعينيات كاليونان وإسبانيا والبرتغال على مركزية دور رموز المجتمع التاريخية، زعيم اليسار اليوناني باباندريو والملك خوان كارلوس في السياق الإسباني، في صياغة توافق عام فعال حول هدف الديموقراطية.ثم تأتي على صعيد ثالث مجموعة من تجارب التحول الديموقراطي في أميركا اللاتينية خلال الثمانينيات والتسعينيات، خصوصاً في المكسيك والبرازيل والأرجنتين، لتبين قدرة النخب الحاكمة، إن التزمت استراتيجياً بهدف إنهاء النمط السلطوي، على إدارة شؤون المجتمع وتطوير رؤية متكاملة لسلسلة من النقلات النوعية نحو الديموقراطية، وعلى قيادة تغير سياسي ناجح ومقبول من الأغلبية المعنية. أما النمط الرابع، فإرهاصاته تبدو جلية في عدد من الدول الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا، التي استندت في إنجازها عملية الانتقال السلمي نحو حكومات ديموقراطية، إلى شرعية مؤسسات الدولة الرئيسة –لاسيما السلطتين التشريعية والقضائية- وثقة أغلبية المواطنين في حياد وسلامة سياستها العامة. وواقع الأمر أن التجارب الناجحة للتحول الديموقراطي في العقود الثلاثة الماضية لم تتجاوز بأي حال من الأحوال الدوائر المتقاطعة للأنماط الأربعة سالفة الذكر على نحو يجعل من التساؤل حول مدى وجودها أو غيابها في السياق العربي الراهن قضية شديدة الأهمية.ويمكن القول بإيجاز إن ما يجمع هذه الأنماط الأربعة، حين النظر إلى الدول العربية وعلى الرغم من الاختلافات في ما بينها، هو اختفاؤها التام أو على أقل تقدير غيابها النسبي، فلا يمكن الحديث بمصداقية عن لحظة تغير سياسي استثنائية الجوهر أو تاريخية الأثر في دول يدَّعي عدد لا بأس به منها السير في طريق الديموقراطية منذ فترة ليست بالقصيرة، فالمنطق التدرجي ورمزية اللحظة الممتدة يهيمنان على الحياة السياسية في المغرب ومصر والأردن بلا انقطاع منذ الثمانينيات وفي اليمن منذ التسعينيات.تغيب أيضاً، إلى حد كبير، عن المشهد العربي شرعية الرمز التاريخي ودور النخب الحاكمة الملتزمة بالتحول الديموقراطي حتى إن عنى ذلك احتمالية فقدانها للسلطة السياسية، ويبدو حكام العرب على اختلاف توجهاتهم وطبائعهم شديدي التردد في ما يتعلق بالاختيارات الاستراتيجية حول الشكل المستقبلي لنظم الحكم ومنطق إدارة علاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين. فلاتزال العقلية الأمنية المعنية في المقام الأول بالحفاظ على استقرار الحكم، هي المهيمنة على مقاربة النخب العربية للسياسة حتى إن نازعتها أحياناً رغبة بعضهم في تحديث مجتمعاتهم وإدخال عدد من الإصلاحات السياسية. وحين نضيف إلى حالة الغموض النخبوي هذه غياب الشرعية عن رموز معظم النخب العربية بعد عقود من التسلط والفساد يصبح التعويل على دور النخب نقطة البدء في إنجاز هدف التحول الديموقراطي عربياً، وهو أمر مجافٍ لمقتضيات المنطق وأمانة الطرح.أما النمط الرابع المعبر عن شرعية مؤسسات الدولة وفعلها العام المستقل، كملاذ أخير للدفع بمصداقية التحول الديموقراطي في العالم العربي، ومع الأخذ في الاعتبار ببعض الاستثناءات الجزئية المشرقة، كما في حالة قطاعات من المؤسسة القضائية في مصر والسلطة التشريعية في الكويت والأجهزة التنفيذية الرشيدة في دولة الإمارات، فقد فُرغ من مضمونه من جراء هيمنة النخب الحاكمة على السلطتين التشريعية والقضائية، كما جُرد من مصداقيته بسبب فساد بيروقراطية الدولة نفسها.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيجي لدراسات السلام» -واشنطن
مقالات
نحن وهم - أسباب تعثر الديموقراطية عربياً
24-09-2007