محمود شريح

يبتكر سلمان زين الدين في مجموعته النثرية «قفص الحريّة» لغة الريف اللبناني في أدقّ حواشيه ويردّنا إلى زمن ولّى يوم كان عندنا ليل ونجوم وقمر ولليل هدأته وللنجوم عيونها وللقمر خطراته. ويحدّثنا عن سروة باسقة قرب بيت أهله في مطارح الجبل؛ عند خزّان الماء نمت وانتصبت مثل عروس في يوم زفاف، ثم أضحت خيمة طبيعة يجلس في ظلها أهل البيت ويسند بعضهم ظهره الى جذع السروة وهناك يغنمون سوانح من الزمن الجميل ويقطفون عناقيد من الهناءة وراحة البال. ثم عن نعمة السّماع وما له من فعل العيان في حياة الإنسان، وقد يبزّه في التأثير فتعشق الأذن قبل العين والصوت عند سلمان زين الدين مفتاح الأذن. فعندما يصيح الديك مؤذناً بانبلاج الفجر يهرع الفلاحون الى الأرض. أمّا أيام المطحنة في القرية فهي موعد للقاء وفرصة للكلام وها هي اليوم على بورة صغيرة سلمت من اجتياح الإسمنت تربض المطحنة أثراً بعد عين وهيكلاً يشهد على قسوة الزمن وعقوق الإنسان فكلما وقعت عليها العين تململ في القلب حنين الى الزمان الجميل واستيقظت دمعة بين الجفون.

Ad

قفص الحرية أو مدرسة المؤلّف وهو في الخامسة بناء حجري قدّ من صخر وباحته ملعب صغير، ورغم نظام المدرسة الصارم فقد تعلّم الصبيّ في ذلك السجن سرّ الطيران وعرف قيمة الحرية وبعد خمس في رحابه طار الى قفص آخر. وعلى مرمى حجر كانت تينة تبسط ظلها النائم فيما ترصّع الأكواز الخضر والصّفر أغصانها فتتهافت عليها الأصابع والمناقير، تقطف الأصفر الشهيّ وتنقده وتغضّ عن الأخضر حتى يصفرّ، وهي موئل العصافير وملجأ الصبيان المدخنين تحت ظلالها.

والقلعة في الريف عمرها عمر الأرض وهي «ورشة الضيعة» التي تطلّ على بحر الوعر والسهل وتتراسل مع الجبال القريبة والبعيدة، وهي شامخة، على الزمن، اختارتها الطيور محطة موسمية في سفرها تقيم فيها أعشاشها وتعرّج عليها لتأخذ قسطاً من الراحة بعد عناء طيرانها الطويل، والقلعة، بعد، جارة بيادر المعصرة، ملعب الطفولة ومستودع الذكريات.

وللقنديل في الريف شأنه، فعلى ضوئه ولد المؤلف وفي ظله نشأ وفي كنفه أزهرت لحظات ومع نعمة الكهرباء وتعميمها أُحيل على التقاعد وتحوّل الى زينة أثرية على صدور الجدران العامرة، لكنّه يبقى معلّقاً على جدار القلب، يُرسل النور ولو لم تمسسه نار.

أمّا خيال الصحراء فزاعة الحقول فالفلاح يصنعه من سقط المتاع فيأتي بخشبتين عتيقتين يغرز إحداهما في الأرض كقامة منتصبة ويثبّت الأخرى عليها أفقياً فتمتد كذراعين مفتوحتين ثم يخلع عليهما ما تقادم من ثيابه، ويكون خيال الصحراء فزّاعة للثعالب وما دبّ من الحيوانات، فإذا ما حدّثت أحدها نفسه بالإغارة على الصحراء، أو سوّلت له اقتحام الخضرة، ورأى «الخيال» ظنّه الفلاّح فولّى الأدبار، وكان هذا في قديم الزمان:

«يوم كان لخيال الصحراء سطوة مستمدة من الثياب وصاحبها، فشكل فزاعةً تحرس الحقول، وتخفيف الطارئين عليها. ومع الزمن، يكتشف الثعلب المحتال الحيلة، ويدرك أن خيال الصحراء هو مجرد ثياب مهلهلة على خشبة عتيقة، فينتهك حرمة الصحراء دون خشية من أحد، وتبلغ به القحة حد عدم الخوف من صانع الخيال نفسه، ويفقد خيال الصحراء هيبته المستمدة من الخارج، ومن لم تكن له هيبة من ذاته فما له من هيبة. ويتحول الى ديكور زائد، لا شرّه يخشى، ولا خيره يرجى.

لقد غدا خيال الصحراء مضرب مثل في الهامشية وعدم الفاعلية حتى بتنا نردد: ما أقل الصحارى! وما أكثر الخيالات في مجتمعنا! وما أكثر الثعالب!».

وحين يموت أحد في الريف يعمّ الحزن الضيعة فالجميع هم أهل الفقيد، يُعزّون به ويتعزّون، يذرفون الدموع ويجترعون الفقد، يرضون بقضاء الله وقدره ويسلّمون، وإذا كانت الجمرة لا تحرق غير موضعها فإن الضيعة كلها موضعٌ لجمرة الحزن.

والمصطبة في الريف مستطيل يمتد من الإسمنت يضطجع أسفل الجدار الحجري، وهي جزء لا يتجزأ من البيت القرويّ القديم، فقلما هناك بيت قديم ولا تكون المصطبة أوّل ما يستقبلك منه ويهشّ لك حبقها ويبشّ بك.

وفي الضيعة ساحة أيٌّ ساحة تتوسطها كواسطة العقد، تصل ما تفرّق من أجزائها وتجمع ما تفرّع من دروبها وتحضن ما تنوّع من أهلها. هي صلة الوصل ونقطة التقاطع ومكان التواصل ومنطلق الافتراق. كل الدروب تؤدي إليها وكل الحارات تمرّ بها وكل الأجيال لها منها نصيب. وفي العرس تعمر الساحة بالرقص والدبكة وتصدح فيها أصوات المنجيرة والمجوز والدربكّة والطبل وتغتسل بألحان الدلعونا والعتابا والميجنا وتنطلق «الأوف» من الصدور تحرّرها مما يعتمل فيها من أغلال الزمان. هذه الساحة أُحيلت على التقاعد وغدت مجرّد ذكرى في أغنية توري الحنين الى زمن ما عاد موجوداً.

أمّا الكرم في الريف فهو على المقلب الشمالي من الحارة، ينحدر في مجموعة من الجلول المتدرّجة حتى يحاذي الدرب التي تربط بين الضيعة والبركة فيصحّ فيه القول «كرمٌ على درب». وبين المنح والمنع تمرّ السنون وتترى مواسم العنب والتين ويُفسح السطح للزبيب والتين المجفّف مكاناً وتمتلئ الآنية بالدبس والتين المعقّد، فإذا الحياة رحلةٌ بين الحلاوات، طبيعية ومصنوعة، فيا سبحان من قسّم الأرزاق، وطوبى لمن يكدّ في الرزق الحلال.

منذ صغره كان المؤلّف ينطر الكرم فيتفقده عدة مرات في اليوم الواحد، وكان يلطأ في قلب صخرة كبيرة تتوسطه ويسميّها أهل الريف القلعة فيطلّ من خلالها على الدرب فيرى ولا يرى ويرصد حركة الرعاة الصغار والأولاد بين الضيعة والحقول، حتى إذا ما سوّلت لأحدهم نفسه مدّ يده على كرم المؤلف إنهال عليه من شاهق بالصراخ، فيقلع عمّا همّ به، ويكمل طريقه. أمّا نحن فنتوقّف هنا لنعلن أن سلمان زين الدين مجيد في كتابته ومؤلّف «قفص الحرية» مفكرة ريفية نمط 2007.

تذوّق

المونة في قرى الجبل طقس ومهرجان وأصناف. يسلق الناس القمح ثم يفلشونه على سطوح البيوت فما أن يكتنز حرارة الشمس ويجفّ حتى يحمله الأهالي الى المطحنة ويجرشوه ويستخرجوا منه البرغل ويأتي الغربال ليفصل بين الناعم والخشن ويقوم المنخل بإسقاط السويق منه، لكن لكلّ من هذه المفردات معناه في معجم المونة اللبنانية:

«أما الناعم فيجبل مع اللحم الناعم بدوره، وتتمخض عن جبل الناعمَين الكبّة النيئة، أكلة لبنان الطيبة. وكم تطيب حين يدق اللحم في جرن حجري بمدقة خشبية، فيقف الفم على سر العشق القديم بين الخشب والحجر. ويُجبل مع الخضر الطازجة، فتكون التبولة، الأكلة الطيبة الأخرى. فكل، واشكر رب الأرض لتدوم النعم.

وأما الخشن فيدخل في أنواع أخرى من الطعام، وفي الحالتين، يهنأ الأكلة ويمرأون، وكأن ما اكتنزه البرغل من شمس السطوح انتقل الى أجسامهم، فشحنها بالصحة والعافية. وأما السويق الذي يسقط تحت المنخل، فللدجاج من طيباته نصيب.

وفي أيلول، نصنع الكشك، نبل البرغل بالماء، ونجبله مع اللبن الرائب، ونرش عليه الملح، ويكون من هذا التفاعل بين بنات الزرع والضرع مزيج طري تجففه الشمس وتطحنه المطحنة، فيصبح كشكاً هو خير فطور في الصباحات الباردة، نتاوله قرب الموقد، فيدفأ منا الداخل والخارج. وكم طابت به نفوس وقرت عيون».