الأخطر، هو واقع انتزاع المؤسسات الأمنية بحكم نفوذها في العديد من الحالات لما يشبه حق «الفيتو» على شخوص من يكلف بمنصب تنفيذي عام، أوبموقع قيادي في المؤسسات التشريعية والقضائية، فضلاً عن الأجهزة السياسية، إن وجدت. تفرض حقيقة أن لحظة الحراك التي شهدها في الآونة الأخيرة عدد غير قليل من المجتمعات العربية لم ترتب اختراقات ديموقراطية تذكر، كما أنها كشفت الحاجة إلى بحوث حقيقية مستمرة لتمحيص ودراسة معوقات التحول الديموقراطي عربياً. وعلى الرغم من أن جل الجهد التحليلي رام في هذا السياق إما إلى تناول المعوقات الاقتصادية(من شاكلة ضعف معدلات التنمية وأزمات البطالة والفقر)، والاجتماعية (هامشية الطبقات الوسطى)، والثقافية (غياب ثقافة المشاركة)، وإما إلى التركيز على هشاشة القوى السياسية المطالبة بالديموقراطية، فإن الصورة ليس لها أن تكتمل سوى بمعالجة آليات سيطرة النظم السلطوية العربية على مجتمعاتها. ويمكن هنا الادعاء، ودونما تعميم يخل بالاختلافات الجوهرية في طبائع النظم العربية، أن المؤسسات الأمنية تلعب دوراً مفصلياً على مستويات ثلاثة.بدايةً، تضبط المؤسسات الأمنية العربية، بمزيج من القيود الاستباقية والممارسات القمعية، حركة الشارع، وتحد من قدرة قوى المعارضة على الفعل السياسي سواء تمثل ذلك في منعها من تنظيم لقاءات جماهيرية، أو مظاهرات، أوالإتيان بمؤيدين إلى صناديق الاقتراع، أو حرمانها من مكاسب مشروعة بتزوير نتائج الاستحقاقات الانتخابية. وتتفاوت درجات القمع في عالمنا العربي، كما يختلف النمط السائد من قمع تعقبي متواصل إلى ممارسات ترتبط بلحظات أزمة مؤقتة، إلا أن المحصلة الأهم لدور المؤسسات الأمنية القمعي، هي ضمان استقرار واستمرارية نظم حاكمة تفتقد في الأغلب الأعم للتأييد الشعبي، وغرس ثقافة الخوف والعزوف عن المشاركة السياسية بين جموع المواطنين.على صعيد ثان، يكتشف الناظر للنظم العربية سريعاً هيمنة المؤسسات الأمنية على السلطة التنفيذية وتوحشها، إذا ما قورنت بأجهزة الحكم الأخرى. لا تقتصر هذه الظاهرة على الجمهوريات الحديثة التي أرسى دعائمها العسكر، وأولئك عادةً مايرون في المؤسسات الأمنية امتداداً مكملاً للجيوش النظامية، بل تتخطاها للملكيات والإمارات العربية. وفي حين يعود توحش المؤسسات الأمنية في سورية وليبيا مثلاً إلى الغياب شبه الكامل للأجهزة السياسية في الحالتين، يفسر ضعف المكون السياسي للنخب الحاكمة في مقابل الكفاءة التنظيمية العالية للشرطة والاستخبارات، مضمون الظاهرة ذاتها في مصر والمغرب وتونس واليمن. ويرتب كذلك شيوع القوانين والمحاكم الاستثنائية، وهي تروم بالأساس، وبغض النظر عن الترنيمات الرسمية حول أخطار الإرهاب والتنظيمات الراديكالية العنيفة، إلى إحكام قبضة السيطرة السلطوية على المجتمع، وإطلاق يد الأمنيين في التعامل مع العديد من ملفات السياسة الداخلية. وتفتقد النظم العربية للأدوات السياسية الفعالة لإدارة سيطرتها على المجتمع وتلجأ، حتى وإن ادعت توجهاً إصلاحياً، مع استبيان ملامح خطر في الأفق إلى سلاحها الأمضى، البطش الأمني.ثالثاً، وعلى مستوى التكوين الداخلي لجل النخب العربية الحاكمة، تزيد مساحة تمثيل رجال الأمن إذا ما قورنت بالفئات الرئيسية الأخرى من شاكلة التكنوقراط وأصحاب الأعمال وأساتذة الجامعات. تراجع بالقطع حضور الأمنيين في الصفوف الوزارية الأولى من مقاعد السلطة التنفيذية، إلا أن تغلغلهم فيما دون ذلك بَيّن. لكن الأخطر من ذلك هو واقع انتزاع المؤسسات الأمنية بحكم نفوذها في العديد من الحالات لما يشبه حق«الفيتو» على شخوص من يكلف بمنصب تنفيذي عام، أو بموقع قيادي في المؤسسات التشريعية والقضائية، فضلاً عن الأجهزة السياسية، إن وجدت. ترتب ممارسة «الفيتو» الأمني انحيازاً هيكلياً داخل النخب العربية لصالح المجموعات المحافظة الراغبة في استمرار أوضاع المجتمع المعني على ماهي عليه في مقابل عناصر إصلاحية تدين بالولاء للنظام، ولكن تسعى لتجديد مؤسساته وآلياته. فالعقلية الأمنية لاتخشى من شيء بين الأرض والسماء أكثر من دعاة التغيير. كانت هذه بعض ملامح دور المؤسسات الأمنية وهيمنتها على السياسة العربية على نحو يعوق من إمكانات التحول الديموقراطي. يبقى أخيراً التساؤل حول مدى تأثر تلك المؤسسات بلحظة الحراك الراهنة. فهل هي بعيدة تماماً عن حالة الغضب الشعبي البادية في عدد من المجتمعات؟ هل يحصن الانتماء للمؤسسات الأمنية أعضاءها أمام تنامي النزعة الدينية وصعود نجم تيارات الإسلام السياسي؟ هل يعاني رجال الأمن من ذات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي تعصف بالأغلبيات العربية؟ بعبارة بديلة، هل المؤسسات الأمنية مجرد أدوات صماء للسيطرة السلطوية تقف على الدوام خارج السياق المجتمعي العام؟ واقع الأمر أن كل مايملكه الباحث أوالمراقب في هذا الصدد، انما هو القليل من الملاحظات الهامشية المستندة إلى شواهد محدودة، فداخل المؤسسات الأمنية العربية، هو بمثابة صندوق أسود مجهول الهوية لمن هو خارجها. رغم ذلك أغامر بالسطور التالية: يبدو من جهة أن النظم العربية قادرة على ضمان ولاء المؤسسات الأمنية اعتماداً على سياسة رعوية بامتياز. يتميز مستوى الدخول والخدمات المقدمة إلى الأمنيين، على الرغم من التفاوت بين كبارهم وصغارهم، عن بقية شرائح المجتمع، ويحمي أسرهم بالفعل من عصف أزمات البطالة والفقر. من جهة أخرى، على الرغم من تواتر الأنباء في السنوات الماضية عن تعاطف نفر بسيط من رجال أمن في عدد من الحالات العربية مع تنظيمات إسلاموية راديكالية، إلا أن أي حديث عن اختراقات ذات بال قد تغير في لحظة ما من ولاء المؤسسات الأمنية للنظم الحاكمة يجافي محدودية الظاهرة. مازالت المؤسسات الأمنية إذن وقبل كل شيء أداة لاستمرار السيطرة السلطوية على المجتمع. باحث مصري في مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي واشنطن.
مقالات
المؤسسات الأمنية وأزمة التحول الديموقراطي في العالم العربي
18-06-2007