في هذه الزاوية طرحت في ما قل ودل في الأسبوع الماضي، تحت عنوان الاستجواب ورقابة برلمانية غائبة، الرقابة التي تمارسها البرلمانات، عند اقرار الميزانيات العامة، والتي يتم إقرارها بقانون لهدف واحد، هو بسط رقابة المجالس النيابية على خطة الحكومة وتصور برنامجها للحكم، من خلال ما تكشف عنه أرقام الميزانية، من قصور في تحقيق أهداف هذه الخطة أو عدم سلامة تعبيرها عن هذا البرنامج، وهي أقدم رقابة برلمانية عرفتها البرلمانات.

Ad

ولم يكن التوقيت وحده، الذي جمع بين الاستجواب والرقابة على الميزانيات، في عنوان المقال السابق، بل كان الجمع بينهما أيضا، لأن مناقشة البرلمان للحسابات الختامية، قد تؤدي إلى استجواب يعقبه طلب طرح ثقة أو عدم إمكان التعاون مع الحكومة، اذا كشفت الحسابات الختامية، إفراطا أو تفريطا في المال العام، الذي نص الدستور على صون حرمته، وجعل حمايته واجباً على كل مواطن، أو كشفت انحرافاً عن تحقيق أهداف السياسة العامة ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو انحرافا عن استخدامها كأداة للتوجيه الاجتماعي والاقتصادي، بافتراض أن الأرقام التي اشتملت عليها الميزانية قد بنيت على استخدام هذه الأدوات وتحقيق تلك الأهداف.

كما تشمل الرقابة البرلمانية على الحسابات الختامية بالضرورة الكشف عن مخالفة الصرف للتقديرات الواردة في الميزانية، كأن يكون المصروف غير وارد في الميزانية أو زائداً على تقديراتها، وهما مخالفتان للدستور في ما نص عليه في المادة 146 من أن كل مصروف غير وارد في الميزانية أو زائد على التقديرات الواردة فيها يجب أن يكون بقانون».

كما تشمل الرقابة التي يبسطها البرلمان على الحسابات الختامية التحقق من أن الجهة الإدارية قد توخت الدقة في إعداد تقديرات الميزانية، أو أنها تعمدت تخفيض الاعتمادات المدرجة في مشروع الميزانية للوصول إلى موازنة صورية لها، بقصد الالتجاء إلى فتح اعتمادات اضافية بعد اقرار الميزانية وإصدارها، وهي رقابة برلمانية مزدوجة، اذ يمكن أن يكون البرلمان قد بسطها قبل ذلك أيضا في رقابته البرلمانية للقانون الصادر بفتح الاعتماد الاضافي، والذي يعتبر قانوناً مكملاً لقانون الميزانية، يسري عليه ما يسري على الميزانية من أحكام، ومنها وجوب إعداده وتقديمه إلى مجلس الأمة من الحكومة وحدها، إعمالا للمادة 140 من الدستور، ولا يجوز تقديمه من خلال الاقتراحات بقوانين التي يقدمها الأعضاء، لأن الميزانية قانون من حيث الشكل، وليست قانوناً من حيث الموضوع، وهو ما أكدت عليه المحكمة الدستورية في قرار التفسير رقم 9 لسنة 2001، فضلا عن أن الحكومة هي وحدها القادرة على تحديد ما استجد من مصروفات تزيد على التقديرات الواردة في الميزانية.

لذلك لا يعتبر سابقة برلمانية القانون الصادر في يوليو 1999 بفتح اعتماد إضافي قدره 45 مليون دينار يضاف الى الاعتماد التكميلي بناء على اقتراح قدمه أحد الأعضاء أثناء مناقشة مجلس الأمة المرسوم بقانون بالميزانية العامة للدولة للسنة المالية 1999/2000، والذي صدر أثناء حل المجلس، فهي سابقة أملتها الضرورة الناجمة عن انتفاء صلاحية الحكومة أو المجلس في تعديل التقديرات الواردة بالمرسوم بقانون بإقرار الميزانية بعد أن تكشّف للمجلس أن هذه التقديرات لم تكن كافية لتعيين الكويتيين، ولا يمكن أن تَرقى هذه السابقة إلى أن تكون سابقة برلمانية، يحتذى بها في المستقبل لمخالفتها احكام الدستور.

كما قد يقع تنفيذ الميزانية في حومة مخالفة الدستور كذلك، إذا تم الصرف من تقديرات الميزانية بالنقل من باب الى آخر من أبوابها، من دون صدور قانون بذلك وفقا لاحكام المادة 146.

وهي مخالفة دستورية تكشفت لمجلس الأمة في جلسته المعقودة بتاريخ 5/8/1998، عندما أثار النائب المحترم مشاري العصيمي والنائب المحترم مسلم البراك نقطة نظام على المادة 146 من الدستور، لدى طرح مشروع قانون بشأن النقل بين أبواب ميزانية «الخطوط الجوية الكويتية» في ميزانية السنة المالية 96/1997 التي انتهت في أواخر يونيو 1997، وأحيل الموضوع إلى لجنة الشؤون التشريعية والقانونية، التي قدمت تقريراً انتهت فيه إلى أن هذه المخالفة الدستورية لا تصحح بقانون، ومن ثم لم يقر المجلس مشروع القانون المذكور الذي ظل معلقاً.

وفي رأينا أن هذه المخالفة الدستورية لا تسوغ لمجلس الأمة الامتناع عن إقرار القانون باعتماد الحساب الختامي، لأن هذا الإقرار هو إقرار لواقع سواء تم صحيحا أو مخالفا للدستور أو القوانين، مع إمكان المحاسبة أو المساءلة السياسية، بعد ذلك، وهي المحاسبة والمساءلة التي لم تتم لقيام ضرورة ألجأت مؤسسة «الخطوط الجوية الكويتية» إلى النقل من باب إلى باب قبل صدور قانون يسمح بهذا الصرف، وهو ما ألمحت إليه لجنة الشؤون التشريعية والقانونية في تقريرها السالف الذكر، كما تعهدت الحكومة أمام اللجنة بعدم تكرار ذلك مستقبلا.

وقد مارس مجلس الأمة بجلسته المعقودة بتاريخ 4/4/2000 رقابة صارمة على حساب الختامي بإعادته الى الحكومة لتقصي رصيد الحسابات الجارية في الملاحق المتعلقة بها.

كما انتهي بقراره الصادر بجلسة 12/7/2000 إلى تكليف الحكومة بإحالة ما ورد في تقرير ديوان المحاسبة من مخالفات، كشف عنها الحساب الختامي وتنطوي على شبهة ارتكاب جريمة من جرائم القانون العام إلى سلطات التحقيق الجزائية.

وأخيرا نرجو أن أكون قد وفيت الغاية التي نبتغي إياها من طرح الرقابة البرلمانية على الميزانيات العامة والحسابات الختامية، لكشف جوهرهما وتفعيل دورهما المهم والأساسي في حماية المال العام، لتتبوأ هذه الرقابة مكانها كأرقى رقابة برلمانية دورية يمارسها البرلمان منذ نشأة الحياة البرلمانية في العالم ... لأن الأرقام لا تكذب.