لم نعد نجد في كلمات الأغنية الجديدة ما يتجاوز حدود التعابير التي أُنشئت في اللغة المتداولة لتتحول الى «صيغ كلامية جاهزة»، كما في أغنية «الواوا» لهيفاء وهبي التي تقوم على العبارة السائدة في مخاطبة «الولد» الذي يتعرّض للألم إثر إصابة طارئة، بما فيها (أو ما قد يجد فيها السامع من تورية!). وفي أغنية «رجب حوش صاحبك عني» التي تستعيد عبارات تنّم عن براءة خادعة وتستخدم في مناسبات إظهار الرفض وإخفاء الرغبة. وكذلك في أغنية دانا «تاكل ملبن» حيث تنطوي العبارة الأخيرة (والمتكررة) على إغواءٍ صريح بنيل المتعة (إذا نظر الراغبُ بذكاء الى جمال «وفتنة» من يخاطبه أو يراه).

Ad

لكن هذه العبارات الرائجة في كنايات العامة ومجازاتها والمستمدة من اللغة اليومية يمكن أن تشكل، رغم الصيغ الساذجة (أو المعدّة لتكون كذلك) في نصوص الأغاني، فضاء واقعياً أكثر تنوعاً وجاذبية (إذا جاءت في نسيج الأغنية الإيقاعي أو أضفت عليها بعداً «بيانياً» (ما نجده في أغنية «آه ونصّ « لنانسي عجرم: «ما فيش حاجة تيجي كده»، «أنت ما بتزهقش كلام»، «تبقى إنت اكيد خسران»...)

يقوم نص الأغنية الجديدة (هل تصح هذه التسمية؟) على التعابير المباشرة والكنايات القريبة وعلى تداعي البعد الزمني واختصار التجربة الى لحظة أو حادثة عابرة. كما يقوم غالباً على الجمل والعبارات القصيرة. تبدو هذه العبارات أقرب الى ردود فعل مباشرة منها إلى العبارات الرومانسية التأملية التي تفترضها التجربة والتي نقع عليها في شعر الأغنية في الستينات.

«أنت عمري»

لعلّ فكرة ديوان أحمد شفيق كامل «إنت عمري» التي تهدف الى احياء تراث الأغنية العربية تهدف كذلك، وعلى نحو مترابط، الى استعادة دور «الكلمات» و«القصائد» باعتبارها مصدراً ملهماً للموسيقيين والمغنين لولادة الأغنية وإنجازها كأثر موسيقي غنائي. إنّ قراءة سماعية للأغنية العربية في تلك المرحلة سوف تظهر مدى التناغم بين الصور والمعاني (التي تنطوي عليها كلمات الأغنية) والأبعاد الموسيقية للصوت والآلة. لذلك فإن عدداً من شعراء الأغنية سوف يكتسبون دوراً لا نجده في الأغنية الجديدة. فأغاني أم كلثوم من شعر أحمد رامي (حيرانه ليه يا دموعي، هجرتك، يا مسهرني، يا ظالمني...) تختلف في أجوائها وأبعادها عن تلك التي غنتها من شعر بيرم التونسي (أنا بانتظارك، الآهات، الأوله في الغرام، أهل الهوى...) أو من شعر أحمد شفيق كامل (إنت عمري، أمل حياتي، الحب كلّه...). كذلك تختلف أغاني عبد الحليم حافظ من كلمات مرسي جميل عزيز (نار يا حبيبي، أهواك، ظلموه...) عن أغانيه من كلمات الأبنودي (عدّا النهار، مشيت على الأشواك) أو من كلمات صلاح جاهين (صورة، بالأحضان، حكاية شوب). وسوف يبدو هذا التأثير الظاهر لكلمات الأغنية إذا أمعنا سماع فيروز في غنائها قصائد الأخوين رحباني وغنائها قصائد من طلال حيدر وجوزف حرب.

الهجر المستحيل

في الستينات استلهمت الأغنية القيم الوجدانية التي أرستها الحركات الأدبية والفنية وارتبطت بالتحولات الفكرية والاجتماعية في هذه المرحلة. ومن الطبيعي أن تشكّل التجارب الإنسانية (الفردية والعامة)، بما تجسد من صراعات وما تحمل من آمالٍ وطموحات، العناوين الرئيسية لشعر الأغنية (كما هي الحال في سائر النشاطات الفكرية والأدبية والفنية). كان لا بد من أن تظهر هذه التجارب في إطار فني يكشف عن أبعادها وتأثيراتها. من هنا بدأ شعر الأغنية في الستينات يأخذ منحى درامياً للتعبير عن العلاقات والمشاعر الإنسانية. الأغنية بهذا المعنى هي حكاية التجربة التي نقع عليها في وصفٍ متفردٍ بلغة الشاعر بما تحمل هذه اللغة من جدّة وغرابة.

إن قيمة القصيدة أو كلمات الأغنية تعود إذاً (كما في كل أثر أدبي أو فني) الى فرادتها في التعبير عن تجربة ذاتية تجد تقاطعاتها العميقة في التجربة الإنسانية. فصورة الهجر (المستحيل) في قصيدة هجرتك لأحمد رامي التي غنتها أم كلثوم هي صورة الهجر في قصص أهل العشق وعلاقات الحب عامة:

هجرتك يمكن أنسى هواك

وإودّع قلبك القاسي

وقلت أقدر في يوم أسلاك

وأفضّي من الهوى كاسي

لقيت روحي في غزّ جفاك

بفكّر فيك وأنا ناسي

كذلك صورة الحبيب المستعادة في غيابه في «أنا بانتظارك» (أغنية أم كلثوم) لبيرم التونسي:

النسمة أحسبها خطاك

والهمسة أحسبها لغاك

وليل مصر كما يراه عبد الرحمن الأبنودي في «عدّا النهار» (أغنية عبد الحليم حافظ) هو ليل المواطن المصري يستعيده الشاعر بالصور الرمزية التي تعبّر عن تجربته ومعاناته بعد الهزيمة.

عدّا النهار والمغربية جايّه تتخفّى وراء ظهر الشجر

وعشان نتوه في السكّة شالت من ليالينا القمر

وبلدنا عالترعه بتغسل شعرها

جالنا نهار ما قدرش يدفع مهرها

يا هل ترى الليل الحزين

أبو النجوم الدبلانين

أبو الغناوي المجروحين

يقدر ينسيها الصباح

أبو شمس بترش الحنين

والدعوة الى السهر والمسامرة واغتنام فرص العمر في «سهار بعد سهار» لسعيد عقل (التي غنتها فيروز) هي نفسها الدعوة لمخادعة الزمن في كل لقاءات المحبين:

... قلُن قمرنا زارْ

وتتلج الدنيا اخبارْ

بس اسهار.

والنوم؟ مين بينكم غير الأولادْ

بيغفوا يروحوا يلملموا أعيادْ

وما دام إنك هون

يا حلو ملو الكون

شو هم ليل وطار

ينقص العمر نهار

بس سهار

وإذا كان صعباً علينا أن نحصر النماذج الشعرية التي تبيّن القيمة الفنية لشعر الأغنية فإننا نكتفي بالاشارة الى عدد من الشعراء الذين عرفت اسماؤهم في عالم الأدب والشعر وأغنت قصائدهم تراث الأغنية العربية فمن هؤلاء الشعراء: أحمد شوقي وبشارة الخوري وإبراهيم ناجي وجورج جرداق وأحمد رامي وسعيد عقل ونزار قباني. ومن شعراء العامية و«شعراء الأغنية»: بيرم التونسي وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد شفيق كامل وكامل الشناوي والأخوان رحباني وطلال حيدر... بالإضافة إلى عدد من شعراء الأغنية في العالم العربي في ستينات القرن الماضي وسبعيناته.