إن يخرج الجيش اللبناني سالماً وغانماً من نهر البارد، ويتمكّن من المساعدة على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وتعد القوى اللبنانية إلى لبنانيتها ومصلحة أهلها البعيدة، يفتح لبنان طاقة للتنوير في جدار المنطقة.

Ad

«العسكريتاريا» لفظة شاعت لدينا على وزن البروليتاريا، منذ أخذت الانقلابات العسكريّة تتوالى على شعوبنا، ودائماً باسم الشعب ورداً على عجز الأنظمة السابقة عن التحرير، أو باسم مكافحة الفساد وإقصاء الشعب. ولم يكن الأمر كذبة كاملة في البداية. في ما بعد قيل «لقد جئنا إلى السلطة بالبندقية، ومن يستطع إزاحتنا فليتفضّل!» أو بما معناه.

فقد عرفنا -أكثر ما عرفنا- دولة الإكراه، لذلك كرهنا الدولة عامّةً، مثلما تريد السلطات السائدة نفسها، التي كانت طارئة، واستمرّت طارئة إلى «الأبد»، أو ما في حكمه مقارنة بأعمارنا القصيرة.

لمّ نتحول كالناس الآخرين وندمج دولة الإكراه في دولة القانون، ولم نفتح أبواب دولة الحرية والديموقراطية والتقدم. وفي ما يخص هذه المفاهيم الأخيرة، التي غمرتنا، أمعنّا سريعاً وقبل التأسيس، في صوغ التفاصيل اللاحقة والجدل على أساساتها، وقام بعضنا بتنحية مفهوم الدولة، ومضمون المدنية والتقدم، لمصلحة التغيير بمعناه الميكانيكي. واستمرّ العداء للعسكر.

أثارت الوقائع التركية مسألة الجيش، وتثيره حالياً وقائع نهر البارد في لبنان. ومنذ عامين أو ثلاثة، لم تعر السلطات السورية أذناً صاغية لمبادرة تصالحية تقدّم بها رياض الترك -المعارض العنيد- وقال فيها إنه في حال القبول بمبدأ التغيير وضرورته، فإن الجيش -ورغم بنائه لعقود على أساس «عقائدي» فاته الزمن- هو الذي ينبغي أن تُناط به مسألة حفظ الأمن طوال المرحلة الانتقالية... ولكن هذا موضوع آخر.

فما يجري في لبنان فائق الأهمية، وخصوصاً بعد استمرار الجيش اللبناني موحداً في اشتباكه مع «فتح الإسلام»، مع قبول القوى والشرائح كلّها للأمر، على خلاف ما سبق طوال تاريخ الدولة الحديث.

رغم خطأ التمديد الكبير، والخطأ المحتمل الأكبر، إذا عجز الرئيس لحود عن تجاوز مرحلة انتهاء مدته الدستورية وأسهم في تفجير الأوضاع خلال الشهرين أو الثلاثة المقبلة، فقد يكون من الإنصاف تسجيل فضل ما له في بناء هذا الجيش في التسعينيات، على أسس أعطته بعض ميزاته الحالية المقاومة نسبياً للانحلال والتفكك والتحفظات التي كان يمكن أن تشلّ قدرته وحركته.

إلا أن هنالك خطراً خفياً وكيداً، منطلقه أن كثيرين في داخل لبنان وخارجه لا يهتمون بمثل هذا التطور، لأنه لا مصلحة لهم في لبنان موحد ومتماسك ومتقدم، بل فيه كمزرعة أو مزارع الخاصة، ومصرف لتوترات أنظمتهم، وساحة لألعابهم الاستراتيجية الخاصة بهم.

في حين، هنالك مصلحة أكيدة للبنانيين خلاف ذلك، ولأهل المنطقة كلها معهم، وأولهم السوريون. فإن اقتضت تركيبة لبنان الخاصة في عام 1943 تحفظاً على مفهوم المواطنة؛ شكّل عائقاً ثابتاً لتطوره الحضاري والديموقراطي؛ حين قامت دولته على ما سُمي بالميثاق، وهو توافق على توزيع للسلطات على الطوائف، انزلق باتجاه توزيع المغانم من دون توزع للمغارم، فيما كان ينبغي أن يكون تعاملاً -يزداد نمواً وتنمية- مع الحقوق والواجبات؛ فإن هنالك الآن فرصة «تاريخية» لتلافي ذلك. لأن ظلّ الدم والحرب الأهلية المخيم دافع قويّ ومستند لمن يريد النجاة إلى أمام.

تجربة الجيش في نهر البارد بساط لجدل بناء الدولة لا يُتاح يومياً، يستطيع المخلصون والمتفهمون أن يتمسّكوا به ويبنوا عليه، فالجيش الذي تحدد الدول الحديثة دوره في الحفاظ على حدودها وكيانها وضمان دستورها، يقوم في لبنان بمثل ذلك، للمرة الأولى. وعليه، ومن كان الخوف منطلقه للتمسّك ببناه العتيقة ما قبل الوطنية، قد يستطيع التفلّت من إساره، في حين أن السعي اللاهث وراء المزيد من المكاسب قد يعطي نتيجة معاكسة. ينطبق هذا على «حزب الله»، وعلى غيره من الذين ينبغي أن يخشوا لا على لبنان وحده، بل على المنطقة كلها من انفلات للنزاعات المذهبية التي لا يجوز اللعب فيها على حدّ الهاوية.

إضافة إلى مفهوم الدولة، لا بد للبنانيين ولنا، من التمسك بمفهوم التسوية، التي تُبنى الدول على أساسه. والتسوية تنازلات متبادلة، حين تكون ناضجة يخرج الجميع منها غالبين ومنتصرين. ففي التسويات «التاريخية»، يكون الجدل السائد ما بين المبادئ والأسس، وليس ما بين الأهواء.

فإن يخرج الجيش اللبناني سالماً وغانماً من نهر البارد، ويتمكّن من المساعدة على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وتعد القوى اللبنانية إلى لبنانيتها ومصلحة أهلها البعيدة، يفتح لبنان طاقة للتنوير في جدار المنطقة. وتلك مسألة تستحقّ الهتاف والتحية، واليد على القلب انفعالاً... وقلقاً.

 

*كاتب سوري