لدينا عدد يتزايد باطراد من مراكز الأبحاث وجهات لمساندة عمليات صنع القرار، إلا أن حلقات التواصل بينها وبين النخب السياسية الحاكمة هي في الأغلب الأعم انتقائية وشخصانية، بل معرضة لانقطاعات متوالية. أحياناً ما يدفع العمل في الغرب ومتابعة ديناميات الحياة السياسية والفكرية في الولايات المتحدة والمجتمعات الأوروبية العربي المغترب إلى إعمال النظر بمنهجية مقارنة في أوضاع عالمه هو. في هذا السياق وبمنطق الاختلاف «بيننا وبينهم» استوقفتني في الآونة الأخيرة حقيقة شدة تواتر النقاشات في العالم العربي حول الدور السياسي والمجتمعي، إن الفعلي أو المبتغى، للمثقفين والمفكرين مقابل ندرة الحديث عن دورهم في الكتابات الأميركية والأوروبية. فما علة ذلك؟قناعتي أنه يمكن تفسير هذه الظاهرة بالرجوع إلى مجموعة متنوعة من العوامل، فالولايات المتحدة، ومعها معظم مجتمعات الغرب الأوروبي، تتميز بوجود عدد من المسارات المؤسسية الواضحة التي تستطيع النخبة الثقافية من خلالها القيام بدورها السياسي والمجتمعي. ولا أعني هنا مراكز الأبحاث والمعلومات والاستشارات السياسية فقط، الساعية في الأساس إلى التأثير في صياغة معنى المصلحة العامة وعملية صنع القرار وتضم في عضويتها العديد من الرموز الفكرية، بل المنظمات العلمية والحركية المختلفة أيضا، التي تمنح أعضاءها من خلال أنشطتها العلنية وإصداراتها المعروفة فرصة التأثير في توجهات المواطن الأميركي والأوروبي والإسهام في صياغة مفردات النقاش العام حول قضايا بعينها.الأهم من ذلك، أن النخب السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا، بشقيها الحاكم والمعارض على حد سواء، لا تسعى إلى استبعاد أو تهميش هذه المجموعات، إنما تحاول باستمرار، وبغض النظر عن تفاوت الأهداف والقناعات، التواصل معها بأشكال متنوعة قد تصل في الحالة القصوى إلى اعتماد رؤى مجموعات بذاتها كإطار إيديولوجي وحركي موجه لسياسات الحكم على النحو الذي ظهر بجلاء في منطق تعاطي إدارة الرئيس جورج بوش الأولى مع مجموعة المحافظين الجدد والمؤسسات التي صاغت «مشروع القرن الأميركي الجديد». وفي لحظات أخرى قد تأخذ العلاقة بين النخب السياسية والثقافية والفكرية في الغرب، خاصة في الجزء الأوروبي منه، شكلاً احتفائياً يروم تقريب عدد محدود من المفكرين من موقع القلب في الحياة السياسية على النحو الذي يصبحون معه بمنزلة «فلاسفة الدولة» وملاذ الحكمة الأخير بها في استمرار لتقليد يعود إلى زمن الملكيات الأوروبية المستنيرة.أين نحن في العالم العربي من هذه الممارسات وهل توجد لدينا إطارات مؤسسية تسمح للمثقف بالقيام بدوره المجتمعي؟ الإجابة ببساطة هي لا. لدينا عدد يتزايد باطراد من مراكز الأبحاث وجهات لمساندة عمليات صنع القرار، إلا أن حلقات التواصل بينها وبين النخب السياسية الحاكمة هي في الأغلب الأعم انتقائية وشخصانية، بل معرضة لانقطاعات متوالية.على صعيد آخر، وعلى الرغم من تواتر أحاديث بعض النخب العربية عن مكانة العلم والعلماء والفكر والمفكرين، يندر اقتراب أي رمز من رموز هاتين الطائفتين من موقع القلب في الحياة السياسية بمنطق صياغة الرؤية والتوجه المجتمعي في مجالات بعينها، بل إن الحالات النادرة التي حدث فيها، ولظروف استثنائية، مثل هذا التقارب قد انتهت بفشل ذريع لم يعدم أحياناً الطابع المأساوي. والعلة هنا تكمن جزئياً في الغياب البنيوي لقدرة النخب الحاكمة على التعامل مع الفكر الحر غير المقيد بمنطق حسابات القوة والمصلحة السياسية والباحث عن دور يتخطى الحدود الضيقة لصياغة التبريرات الاعتذارية لتوجهات هذه الحكومة أو تلك، إلى رحابة النظر في الصورة الكلية التي ينبغي للمجتمعات العربية أن تكون عليها في المستقبل القريب والبعيد.لا عجب إذاً أن يشعر المثقف الملتزم المهموم بقضايا الوطن بغربة شديدة، وأن يلجأ هو ذاته، المرة تلو الأخرى، إلى الحديث عن دور المثقفين وأهميته القصوى في إنقاذ السياسة والمجتمع في عالمنا. لا ينتج واقع التهميش الفعلي في حالة المثقفين العرب سوى المبالغة الكلية، وهي هنا بلاغية فقط من جانبهم، في التأكيد على مركزية دورهم مقارنة بنخب الحكم القابضة فعلياً على زمام الأمور. بل إنه من اللافت للنظر في هذا السياق تواتر توظيف التوصيفات الذاتية في الكتابات الصحفية والمداخلات الإعلامية من شاكلة «نحن المثقفين نعتقد» أو «أنا كمفكر أرى» وغيرها، وتلك توصيفات تكاد تختفي تماماً في الغرب. يبدو أن إحساس المثقف العربي بالعجز ورغبته الجارفة في البحث عن دور يتحايل به على أزمته الوجودية يدفعه إلى إنتاج هوية تقريرية خطابية يستبدلها بتلك المرتبطة بالقدرة على الفعل المجتمعي وإنجاز التغيير. كبير باحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي– واشنطن.
مقالات
المثقفون العرب ـــ معضلة غياب الدور
05-08-2007