Ad

نموذج الحل من تاريخنا القريب كان صارخاً نتج عنه اقتيادنا كالخراف، أو قل كالنعاج، إلى مذبح الاحتلال وواجهنا الغزو التافه بصدور عارية.

إذا افترضنا أن أحاديث الحل غير الدستوري حقيقة، ووراءها إرادة سياسية، فهل بإمكان تلك الإرادة إدارة التوترات الناتجة عن ذلك الحل؟ إن القيام بفعل انتحاري بحاجة إلى خيال سياسي قادر على استيعاب التجارب، وبالتالي استحداث آليات وأدوات تتفاعل مع أزمة بهذا الحجم، فهل يتوافر بين ظهرانينا ذلك الخيال السياسي؟ لا أظن حيث كثُرت «المرادم» التي تسعى سعياً الى الوقوع في الفخ، بل تكرر فعلتها تلك.

والسؤال الذي يلي ذلك الافتراض بحل غير دستوري هو: هل هي الفكرة السابقة ذاتها وبإطار جديد؟ نبيذ قديم بقنان جديدة؟

أما نموذج الحل من تاريخنا القريب فقد كان صارخاً نتج عنه اقتيادنا كالخراف، أو قل كالنعاج، إلى مذبح الاحتلال، وواجهنا الغزو التافه بصدور عارية، أما حكومتنا الرشيدة فقد تركتنا من دون سابق إنذار عزلاً، إلا من إيمان بالله والوطن، واجهنا وقاومنا بطريقة التعلم والخطأ أمام ماكينة وحشية كريهة.

فما هي يا ترى رؤية أولئك الذين يدفعون الى حل غير دستوري في التعامل مع الصحافة والفضائيات؟ وهل سيتم تطبيق نظام الرقيب الداخلي؟ وما معايير ومقاييس المسموح والممنوع؟ وهل ستتم إعادة تفعيل قانون التجمعات؟ وما الأجهزة القمعية وحدود تعاملها مع من يتمرد؟

من المفيد إلقاء شيء من الضوء على تجربة حل 1986، فحين دخل علينا الرقيب في تلك الليلة ليعلن بداية حقبة جديدة، وجاء بجعبته قائمة طويلة من الممنوعات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - كلمة الديموقراطية ـ الدستور ـ مجلس الأمة ـ صور أعضاء مجلس الأمة حتى من دون ذكر مناصبهم ـ ذكر أي دولة صديقة أو شقيقة بسوء ـ التضييق على بعض الكتاب بشطب الكثير من مقالاتهم والقائمة تطول،

وهنا نذكر بعض الأمثلة؛ فبعد حل المجلس مباشرة، عُقدت قمة «إيفران» في المغرب، حيث ضمت لقاءً بين شيمون بيريز والملك الحسن، وكان طبيعياً أن تكتب مقالات ناقدة لذلك اللقاء، إلا أن التعليمات الرقابية كانت لا تسمح بذلك، ففوجئ الناس بعدم وجود اعتراضات في الصحافة الكويتية، مما دفع بعض السفارات العربية للاستفسار من الخارجية الكويتية عن حقيقة موقفها، وإن كانت مؤيدة للتطبيع مع إسرائيل وكان جواب الخارجية بالنفي، ولكن الجهات المستفسرة تساءلت عن منع مقالات من قبل الرقابة الكويتية فتحركت الخارجية الكويتية وأبلغت الإعلام بأن هذا الأمر غير جائز وأنه يسبب إحراجاً للكويت، فما كان من الإعلام إلا أن رفعت الحظر عن الكتابة نقداً للمغرب وقمة «إيفران»... فكان من ضمن ما نشر كاريكاتير لزميلنا المرحوم نبيل السلمي بالإمكان تفسيره على أنه تحريض لاغتيال ملك المغرب، فما كان من حكومة المغرب إلا أن اعترضت واحتجت على هذا الموقف، استناداً إلى أن ما ينشر في الصحافة الكويتية تقره الحكومة بسبب الرقابة.

أما الحادثة الثانية؛ فقد تسببت في إشكال معقد مع الحكومة الهندية حين سمحت الرقابة بنشر لقاء صحفي لرئيسة وزراء باكستان بنازير بوتو، التي كانت في زيارة الى البلاد آنذاك وهاجمت فيه الحكومة الهندية، وعندما احتجت حكومة الهند انطلاقا من أن ما ينشر في صحافة الكويت يمثل وجهة نظر الحكومة بسبب وجود الرقيب، تم الاتفاق على زيارة ومؤتمر صحفي لوزير الطيران الهندي لنشر وجهة النظر الهندية، وفعلا جاء الوزير وعقد مؤتمره الصحفي إلا أن الرقابة عبثت باللقاء مما تسبب في تأزيم العلاقة مع الهند فكان موقفها بارداً إبان الغزو. أما الظريف في الأمر فهو منع نشر صور الأعراس التي يوجد فيها أحد أعضاء مجلس الأمة المنحل حتى لو لم يذكر أنه عضو في مجلس الأمة... وهذه الأحداث ليست إلا غيضا من فيض.

لقد تم تحميل جهاز الرقابة في وزارة الاعلام أعباءً أكبر من طاقته، فلم يكن يوماً مدرباً على ذلك الدور، فهو ليس جهاز إعلام حزبياً، إنما إدارة في وزارة الإعلام، لا أقل ولا أكثر، فأن يوكل إلى ذلك الجهاز مهمة السياسة الخارجية، فإن ذلك لا أظنه كان في حسبان أولئك الذين ابتدعوا نظام الرقيب.

أما الأثر السلبي الآخر؛ على مستوى إدارة الدولة حيث بدأ الوزير الذي ينُتقد في الصحافة يوجه أصابع الاتهام بالتواطؤ من قبل وزير الإعلام، وإلا كيف يسمح بنشر انتقادات موجهة له من دون الوزراء الآخرين، وشيئا فشيئاً بدأت حالات العتب و«التشره» تنزل إلى مستويات إدارية أقل، فوكيل الوزارة، ثم الوكيل المساعد، فالمدير حتى وصلنا في بعض الأحيان إلى رئيس قسم ومراقب، وهكذا أصبح نشر انتقاد لمسؤول نافذ يعد من القضايا التي تمس الأمن الوطني الذي تقوم الرقابة بمنعه. ولو خضنا في التفاصيل لكان لنا أن نؤلف مسرحية فكاهية، ولكنها كوميديا سوداء على اي حال.

فأي نمط وأي نموذج يسعى إليه الذين يدفعون بحل غير دستوري؟ وهل يوجد هناك منطق من تكرار الخطأ الذي جلب الى البلد المآسي؟ وهل التعلم من الخطأ فضيلة لا يجرؤ على اكتسابها؟

أم أننا لسنا إلا «مرادم» و«أم المرادم» ليست عنا ببعيد.