Ad

المعركة بيننا وبين الكيان الإسرائيلي ليست فقط بالسلاح، وليست فقط بالانتفاضة السلمية أو المسلحة، وليست فقط بالموقف العربي الموحد وراء فلسطين، وهو صعب المنال، وليست فقط بالتعاطف الدولي الذي لا يتعدى الأقوال، وليست مؤجلة إلى أجيال قادمة قادرة على النصر وتحرير فلسطين والأقصى، معركة المفكر العربي هي إعادة بناء الموروث القديم، وتحويل الأرض من ثقافة شعبية إلى ثقافة سياسية.

للألفاظ أيضاً فقه الأولويات، ومازالت الألفاظ المستعملة في خطابنا الديني تغلب عليها الألفاظ التقليدية الموروثة التي لا صلة لها بالواقع المعيش أو بظروف العصر، وتعتمد في معظمها على النقل من دون العقل، من عالم الغيب وليس من عالم الشهادة، وهي موضوع للتصديق الإيماني من دون برهان عقلي، ومن ثم هي أقرب إلى الظن منها إلى اليقين طبقاً للأشاعرة، لأنها تعتمد على النقل وحده من دون العقل.

ومنها ألفاظ المعاد، وما يحدث بعد الموت ابتداءً من عذاب القبر ونعيمه، وكل أهوال القيامة ومناظر الحشر من صراط وميزان وشفاعة وحوض وأوصاف للجنة والنار، وكلها من الخبر وليست من المعاينة. أوّلها المعتزلة والفلاسفة؛ الحياة بعد الموت هي الرغبة في الخلود، والميزان هو العدل والاستحقاق، والجنة والنار هما الرضا عن النفس أو تأنيب الضمير، النعيم المعنوي والعذاب المعنوي.

وقد تأتي الألفاظ من العقائد الأشعرية مثل الإيمان والكفر، والكبائر والصغائر، وقد تأتي من الفقه مثل الحلال والحرام والأمر والنهي، وقد تأتي من التصوّف مثل الصبر والتوكل والخوف والخشية والرضا والتسليم والفناء والمحو والفقد، ولا نستعمل ألفاظاً نحن في أمس الحاجة إليها تجذب الشباب نحو العلمانية والغرب مثل الحرية والديموقراطية والتعددية والرأي والرأي الآخر. وتمتلئ القنوات الفضائية والإذاعات وصفحات الفكر الديني بهذه الألفاظ التقليدية حتى أصبح الدين عالماً مغلقاً منفصلاً عن الحياة، له رجاله، وبضاعة رائجة في وقت يتمسك الناس فيه بالموروث كطوق نجاة من أزمة العصر واضطراباته، وتمتلئ البرامج الدينية بهذه الألفاظ مثل «نور على نور»، وإن تغير بعضها مثل «العلم والإيمان»، «الشريعة والحياة» فإنها تدور أيضاً حول المفاهيم التقليدية واستعمال الجديد لتأصيل القديم، ويصل الأمر إلى كتب التربية الدينية في المدارس في دروس هامشية ليس فيها نجاح ورسوب، ولا تضاف إلى المجموع، يفصل فيها بين المواطنين طبقاً لدياناتهم، الإسلام للمسلمين، والنصرانية للنصارى، فتكرس القسمة الطائفية في التربية والتعليم، وبمجرد ما يعي الطالب، مبكّراً في الثانوية أو متأخّراً في الجامعة يترك الدين الذي لم يشدّه إلى الأيديولوجيات العلمانية للتحديث: ليبرالية واشتراكية وماركسية وقومية ليشبع بها فكره السياسي وتساعده على ممارسة مواطنته والتزامه الاجتماعي، وقد يهاجر إلى الخارج بحثاً عن الرزق والحلول الشخصية للمشاكل العامة، وقد ينضم إلى الحركات السرية التي تعده بكل شيء في المستقبل كرد فعل على لا شيء في الحاضر، وقد يظل حائراً بين هذا وذاك، يندب حظه، وينعي نفسه وينتظر الفرج فلا يأتي فيموت.

وفي نفس الوقت نحن أمام عدو يتحدث عن «أرض إسرائيل» ويقصد بها فلسطين، ويدعو يهود العالم إلى الهجرة إليها والاستيطان فيها، من «الدياسبورا» إلى «العاليا»، من «الشتات» إلى «العودة». وقد بدأت حركة الاستيطان منذ أوائل القرن التاسع عشر بعد عدة محاولات من المفكرين اليهود مثل مارتين بوبر بتغيير القيم اليهودية الموروثة من قراءة التوراة كأعظم فعل فاضل، وأول أمر إلهي إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان في الأرض، والتحول من بدو إلى مزارعين، ومن رُحّل إلى مستوطنين، فزرعوا الأرض، وبحثوا عن مصادر للحياة، وبنوا المستوطنات، والمزارع الجماعية، والموشاف، وكلما زادت الهجرة تم طرد الفلسطينيين وإحلال المهاجرين اليهود محلهم، ومازال التوسع كل يوم قائماً، فالأرض هي الأرض المقدسة، وعدهم الله بها في العهد القديم، عهد نوح الذي جدده إبراهيم والذي قننه موسى، فاليهودي لا يستطيع أن يعيش إلا في هذه الأرض، أرض المعاد، وإلا في هذه المدينة، القدس، المدينة المقدسة، ولا يستطيع أن يعبد الله إلا في هذا المعبد، هيكل سليمان الذي لابد من إعادة بنائه حتى تصح العقائد اليهودية، ويستطيع اليهود ممارسة شعائرهم، وإذا مات اليهودي خارج الأرض المقدسة فإنه يدفن حيث مات ويوضع تحت رأسه كيس فيه حفنة من تراب فلسطين وكأنه دفن هناك.

وغزت إسرائيل كل الجامعات الغربية، الأوروبية والأميركية، وكل أقسام الدين وتاريخ الدين والفلسفة فيها بموضوع «الله والشعب والأرض» كفرع من «اللاهوت الجديد»، فلا يمكن تصور الله من دون الشعب المختار، ولا يمكن تصور الشعب المختار من دون أرض الميعاد، أرض الآباء والأجداد، فالشعب والأرض جزءان من الألوهية.

أما نحن –المسلمين- فالأرض ليست جزءاً من العقيدة، الله لا زمان له ولا مكان، ولم يختر شعباً بعينه «فأينما تولّوا فثم وجه الله»، «وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، «إن الله غنيٌّ عن العالمين». الله منزه، قائم بذاته، قديم باق وواحد. لا الأرض ولا الشعب ولا المدينة ولا المعبد من صفاته أو أوصافه أو أسمائه أو أفعاله. فلسطين والقدس والمعبد بالنسبة إلى اليهود أجزاء من العقيدة اليهودية في حين أنها ليست جزءاً من العقيدة الإسلامية، هي وقف إسلامي، أي جزء من الفقه والشريعة، والفقه متغير، أحكام بشرية تتغير بتغير العصور، وقد تغير العصر وعانى اليهود المحرقة في ألمانيا وكل صنوف الاضطهاد والتطهير العرقي في روسيا وأوروبا الشرقية، بل في الغرب بعد حادثة داريفوس ونشأة اللاسامية، وقد آن الأوان لإعطاء أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض.

أمام هذا الوضع ماذا يفعل المفكر العربي؟ فالمعركة بيننا وبين الكيان الإسرائيلي ليست فقط بالسلاح، مرة لك ومرة عليك، وليست فقط بالانتفاضة السلمية أو المسلحة، وهو تكليف ما لا يطاق، وليست فقط بالموقف العربي الموحد وراء فلسطين وهو صعب المنال، وليست فقط بالتعاطف الدولي الذي لا يتعدى الأقوال إلى الأفعال، وليست مؤجلة إلى أجيال قادمة قادرة على النصر وتحرير فلسطين والأقصى، فالأجيال الحالية تريد الهجرة خارج الأوطان كما يحدث الآن في العراق من تفريغه من شعبه كما حدث في فلسطين في 1948، نكبة ثانية بعد النكبة الأولى.

معركة المفكر العربي هي إعادة بناء الموروث القديم، وتحويل الأرض من ثقافة شعبية إلى ثقافة سياسية. صحيح، أن هناك يوم الأرض، وفرقة الأرض، وفيلم الأرض، وأغاني الأرض، وشعر الأرض. «آه، ياجرحي المكابر، أنا لست «مسافر»، و«وطني ليس حقيبة. إنني العاشق والأرض حبيبة». لا يكفي أن يقبّل الأسير الفلسطيني العائد إلى فلسطين الأرض، بل أن تتحول الأرض إلى جزء من عقيدة الأمة.

لقد ظل الصليبيون قرنين ونصف القرن في أوطاننا، وإسرائيل مزروعة في الأرض منذ ستة عقود، وقد بدأ صلاح الدين في معركة القدس بالقضاء على الصوفية أنصار التوكل والصبر والرضا والخوف والخشية والمحبة، والقضاء على المهديّة التي تريد الخلاص في المستقبل.

إعداد الأمة بالثقافة السياسية جزء من الإعداد للمعركة، ليس عن طريق حماسيات إدارات التوجيه المعنوي بل بإعادة تأسيس العقيدة على الأرض، فالأرض جزء من الألوهية «إله السموات والأرض»، «رب السموات والأرض»، «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله».

على هذا النحو يستطيع المفكر العربي أن يساهم في صمود سورية وحزب الله وإيران، ليس فقط بالجهاد المسلح المتهم بالعنف والإرهاب، بل عن طريق إعادة بناء الموروث القديم، وجعل الأرض محور العقيدة وبؤرة الثقافة السياسية، والدخول في حوار الأديان، والحضارات، والثقافات، والأرض في الأذهان والشعب في القلوب.

* كاتب ومفكر مصري