Ad

هذه الدراما الاجتماعية ليست عملاً تاريخياً بطبيعة الحال، لكنها بالنسبة إلى كثيرين اختصرت جزءاً من تاريخ دمشق بصور ممجوجة ومكررة، خصوصاً مع غياب ما يوازيها من أعمال تؤرخ للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي في سورية ما قبل «الثورة»، باستثناء أعمال قليلة في الماضي لم يُتح للجيل الناشئ مشاهدتها.

الملك فاروق سوري الجنسية، أثار استياء كثيرين في مصر الشقيقة. لم يجد هؤلاء ما يبرر منح ممثل سوري مثل هذا الدور، في مسلسل يعرض لمرحلة مهمة من تاريخ مصر الحديث، الدولة حاضنة فكرة الوحدة العربية، والشريكة في أول تجربة وحدوية من نوعها بين دولتين عربيتين، لم يستسغ كثير من أبنائها استعادة هذه الوحدة على الصعيد الفني، ولسنا نلومهم على ذلك، فلهذا حديث آخر.

في المقابل وبالمنطق ذاته، تساءل كثير من السوريين، لماذا يذهب جهد المبدعين من أبناء بلدهم، تمثيلاً وإخراجاً، لعرض مراحل من التاريخ المصري كما في الملك فاروق، أو الفلسطيني كما في «التغريبة الفلسطينية»، أو حتى الإسلامي كما في «ملوك الطوائف»، ويبقى تاريخ سورية الحديث بعيداً عن قصص الثوار والشهداء والقبضايات، منبوذاً من قبل الدراما السورية، أو موضوعاً هامشياً في أفضل الأحوال. ثم إذا كانت الدراما المصرية قد تناولت شخصيات تاريخية وفنية وفكرية صنعت الماضي القريب لهذا البلد، فأين مثل هؤلاء في الدراما السورية؟

كاتبة سيناريو مسلسل الملك فاروق، الدكتورة لميس جابر، تعتبر بحق أن ثورة يوليو قد عمدت إلى تشويه المرحلة التي سبقتها، بحيث يبدو أن كل ما سبق يوليو 1952، هو شر محض، وكل ما لحقه، هو خير محض. الأمر نفسه ينطبق على التاريخ السوري الحديث قبل انقلاب الثامن من مارس عام 1963، أو حتى ما قبل عام 1970 تاريخ ميلاد النظام السياسي الذي مازال حاكماً حتى اللحظة، فالمرحلة ما بين الاستقلال وهذا التاريخ هي إلى حد بعيد خارج «التاريخ»!

هذا في الوقت الذي يحظى فيه مسلسل مثل «باب الحارة» في جزئه الثاني، بمتابعة كثيفة جداً، في سورية كما في مختلف الدول العربية وفقاً لما تشير إليه التقارير الصحفية.

باب الحارة –وهو واحد من مسلسلات عديدة قديماً وحديثاً في هذا الإطار- ينفتح على مجتمع دمشقي في الثلث الأول من القرن الماضي كما يبدو من أحداثه؛ إذ ينقسم الناس إلى قسمين، الرجال أصحاب المروءة والنخوة، وعلى رأسهم الزعيم، وأولئك الطفرات «الأشرار» عديمو المروءة والنخوة. الرجال أصحاب الصوت العريض والسلطة المطلقة عائلياً، والنساء اللواتي يمكن اختصارهن بثلاث مفردات: «الردح» والثرثرة والخنوع. الحارة التي تبدو كجزيرة مغلقة معزولة عن كل ما يدور في البلد، معظم رجالها أبطال يدعمون الثوار. في ما عدا ذلك، فـ«الأحداث» غالباً تدور حول «طنجرة» الجارة، ومؤامرات الحماة والكنة (زوجة الابن)، والخطّابة حاملة أسرار البيوت.

قد تعود كثافة المشاهدة لمثل هذه المسلسلات إلى «ثقافة» الحكواتي والقيل والقال التي ماتزال رائجة إلى حد بعيد. وقد تعود إلى حنين ما لأيام خلت، يهوى فيها الرجل سماع «أمرك ابن عمي» من زوجته، أو نهرها قائلاً «اسكتي يا مرا». قد يحن الرجل إلى دور وسلطة يصورهما المسلسل، لا يحظى بمثلهما هذه الأيام. وقد يستمتع جنباً إلى جنب مع المرأة بمتابعة الثرثرة وابتذال «الحوار» والجارة تولول ناعتة جارتها بـ «شرنة وسخة». أما أن يقال إن المسلسل تكريس لقيم الشهامة والمروءة والنخوة التي كانت سائدة في ذلك الزمان وافتقدناها في زماننا الحالي، فهو ما يبعث على الدهشة. إذ إن تقديم القيم بأشكالها المطلقة والأكثر سماجة وسذاجة، لا يدعو إلى تكريس شيء على الإطلاق. باستثناء اللهم، ما يقلده الأطفال الصغار، من قتال بالعصي في الحارات، أو تكرار العبارات التي تكرس قيم الذكورية الفظة والتي يزخر المسلسل بمثلها.

هذه الدراما الاجتماعية ليست عملاً تاريخياً بطبيعة الحال، لكنها بالنسبة إلى كثيرين اختصرت جزءاً من تاريخ دمشق بصور ممجوجة ومكررة، خصوصا مع غياب ما يوازيها من أعمال تؤرخ للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي في سورية ما قبل «الثورة»، باستثناء أعمال قليلة في الماضي لم يتح للجيل الناشئ مشاهدتها.

أخيرا، وبمنطق «الغيرة القطرية» الذي اصطبغت به ردود بعض الأفعال السورية والمصرية بشأن «الملك فاروق»، فإذا كان مقدراً لي كمواطنة سورية، الاختيار ما بين مشاهدة «إعادة الاعتبار» لفترة حكم الملك فاروق في مصر، ودراما «الردح» والثرثرة والصوت العريض ومن قتل الزعيم في «باب الحارة»، فسأختار بالتأكيد المشاركة في إعادة الاعتبار إلى الملك المخلوع.

وحتى يحل الوقت الذي يرد فيه الاعتبار إلى تاريخنا السوري الحديث بشخوصه وصنّاعه وأحداثه، أفضل أن أطل على حكايا الشام القديمة ورائحتها من أبواب أخرى غير تلك التلفزيونية. أبواب تحفظ لدمشق «مهرجان الماء والياسمين»..رحم الله نزار قباني ودمشقه.

* كاتبة سورية