فرض التحول في إدارة علاقاتها الدولية فضلاً عن انتقالها الراديكالي من المنظومة السوفييتية إلى التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية على أذربيجان أن تتبنى شبكة تحالفات واشنطن الإقليمية في القوقاز ومنطقة بحر قزوين وما حولها، ولذلك فقد أخذت أذربيجان تنسج تحالفاتها الإقليمية بخيوط تركية وعلى منوال صنع في أنقرة، ومن المعلوم أن الأخيرة هي المنافس التقليدي لإيران في منطقة آسيا الوسطى منذ قرون خلت، ولأن تركيا قد حددت لنفسها دور النموذج والمثال لدول آسيا الوسطى بسماح وتفاهم أميركي، في حين حاولت إيران ترميم علاقاتها التاريخية مع هذه الدول على قاعدة إيديولوجية ثورتها الإسلامية من ناحية ومصالحها الاستراتيجية من ناحية أخرى، فقد كان الصدام بالمصالح بين إيران من ناحية وأذربيجان ومن خلفها تركيا من ناحية أخرى محتوماً. ويظهر الاستقطاب الإقليمي بين إيران وأذربيجان في خرائط أنابيب نقل النفط والغاز من بحر قزوين، إذ إن الأنابيب هي السبيل الوحيد لنقل هذه الثروات، كون بحر قزوين لا يتصل بالبحار المفتوحة مثل الخليج العربي.

رسمت الشركات النفطية الأميركية العملاقة والمسيطرة على ثروة بحر قزوين خط الأنابيب الناقلة ليمر عبر تركيا ويستبعد إيران من مرور الأنابيب، في إشارة إلى تقليص نفوذها الإقليمي لمصلحة دور تركي قائد في تلك المنطقة، وهو ما تعتبره إيران عدواناً على حقوقها التاريخية.

Ad

انحازت إيران إلى الجانب الأرميني في صراعها مع أذربيجان، على الرغم من أن الأذربيجانيين ينتمون إلى المذهب الشيعي، وذلك لاعتبارات مقارعة النفوذ التركي الأذربيجاني في آسيا الوسطى والقوقاز، ويزداد الموضوع إثارة إذا علمنا أن أذربيجان ارتبطت بإيران برباط تاريخي فضلاً عن المذهبي، إذ إن أجزاء كبيرة من أذربيجان الحالية كانت تقع ضمن الأراضي الإيرانية، حتى خسرتها إيران أمام روسيا في الحروب التي قامت بين روسيا القيصرية وإيران القاجارية في القرن التاسع عشر. وعليه مازال الغلاة من القوميين الإيرانيين يعتبرون أن لإيران حقوقاً في أذربيجان، وعلى الناحية المقابلة يعتقد القوميون الأذربيجانيون أن الأراضي الواقعة في شمال غرب إيران التي تتمركز فيها القومية الأذرية هي أراض أذربيجانية يجب أن تعود إلى أصحابها. ومثل إعلان دولة أذربيجانية في الأربعينيات من القرن العشرين في شمال إيران، سابقة تاريخية للقوميين الأذربيجانيين حفرت في أذهانهم. ولأن سكان إيران الحالية يتشكلون من خليط أعراق وقوميات مختلفة مثل الفرس والأذربيجانيين والأكراد والبلوش والعرب والتركمان وغيرهم، فقد توخى حكام إيران وبصرف النظر عن توجهم الإيديولوجي، أن يكون الحفاظ على وحدة الأراضي الإيرانية في مقدم أولوياتهم. وبسبب أن الأذربيجانيين في إيران يأتون في المرتبة الثانية من حيث التعداد بعد القومية الفارسية، فقد حاولت الدولة الإيرانية إفساح المجال لذوي الأصول الأذربيجانية في الطوابق العليا بالدولة الإيرانية بغية ترسيخ انتماء الأذربيجانيين للدولة الإيرانية. ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة بمثال الإمبراطورة السابقة فرح ديبا التي تنحدر من أصول أذرية، ومثال السيد علي خامنئي مرشد الثورة الإيرانية الحالي الذي ينتمي إلى نفس القومية.

أظهرت تحالفات تركيا الدولية طوال فترة الحرب الباردة اتجاه ريحها الشمالي، ومؤشر بوصلتها نحو الأطلنطي، في حين جاءت تحالفاتها الإقليمية ترسيخاً وانعكاساً لتحالفاتها الدولية تلك، وتناغم ذلك مع طموحات المؤسسة العسكرية التركية، التي احتكرت لنفسها منذ تأسيس الجمهورية التركية، قيادة وتفسير الأحلام التركية القومية، فأصبحت تلك المؤسسة- بموجب هذا الاحتكار- ضابط إيقاع السياسة التركية. وفتح الرئيس السابق تورغوت أوزال منذ بداية التسعينيات الباب أمام تطويع المعطيات التاريخية لتوسيع نفوذ تركيا في جمهوريات آسيا الوسطى، بالاستفادة من الروابط التاريخية العثمانية التي ربطت هذه الدول بالأناضول وإسطنبول. ولكن تركيا لم تستطع بالرغم من موقعها الاستراتيجي المفتاح، على قارتي آسيا وأوروبا، أن تحسم خياراتها الاستراتيجية بوضوح، فتأرجحت أولويات صانع القرار في تركيا، وبعد تعثر انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بحثت السياسة التركية عن «أمتها» من جديد، فأعادت اكتشاف روابطها العثمانية مع دول آسيا الوسطى، التواقة بدورها إلى الانعتاق من روابطها الروسية. وتلعب تركيا الآن دور الغطاء الإقليمي الأذربيجاني، ودورياً يحلق سلاح الجو التركي في الأجواء الأذربيجانية وفي مياهها الإقليمية لإرسال رسالة إلى إيران مفادها أن باكو ليست وحدها في مواجهة إيران، وهكذا يمكننا أن نلحظ اصطفافين أساسيين في القوقاز يتواجهان ويتنافسان: الأول تحالف يضم الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وأذربيجان وجورجيا، في مواجهة الثاني الذي يضم روسيا وإيران وأرمينيا. ويترافق ذلك مع الدور المتعاظم نسبياً لتركيا في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وبما يفتح المجال لتركيا في تصليب حضورها الإقليمي هناك وتثبيت دورها «النموذج» لدول آسيا الوسطى، وهو ما يحظى بدعم دولي عام وأذربيجاني خاص.

* كاتب وباحث مصري