يرصد فيصل دراج في كتابه «الذاكرة القومية في الرواية العربية»، الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية، سعي الرواية العربية إلى أن تكون مستودعاً عاماً شاملاً للحياة العربية، وذلك منذ انطلاقتها الأولى مع «زينب» لمحمد حسنين هيكل (نشرت على شكل فصول في الجريدة عام 1914) التي يجمع النقاد أنها أولى ثمارها حتى آخر تجاربها الحالية. لا تقتصر مهمته على تخزين الأحداث التي تجري في المنطقة العربية، إنما على جعل هذه الأحداث مطروحة أمام الرأي العام، انطلاقا من بنية ترميز روائي تكثفها وتشدها وتصبها في إطار شخصيات روائية، مأخوذة من قلب الوقائع الفعلية ومنسوجة من الآمال والتطلعات العامة للشعوب العربية، إلا أنها تخترقها وتتجاوزها في الوقت نفسه.هكذا استطاعت الشخصيات الروائية أن تزخر بأبعاد عدة فهي، وان كانت قائمة أساساً في قلب الحياة اليومية للناس وماثلة في الأحداث، تخفي نزوعاً يتجاوز الحياة اليومية والسياق العادي والمألوف للأحداث، لتتجه إلى محاولة تصعيد هذه الحياة اليومية وتفعيل الأحداث وإخراجها من حيز التتابع إلى حيز الإدهاش والخارق.ليس هذا الخارق كما وصفته الرواية في أفقها القومي إلا الانبعاث القومي للأمَّة وتوحدها بذاتها وتاريخها وحدودها وثقافتها وقدراتها.لم تبحث الرواية عن خلاص جاهز ومتعال يأتي من غيب ما وينسف الواقع البائس فجأة ويحمل التقدم والازدهار بلحظة نورانية غير قابلة للتفسير، بل اتجهت منذ بدايات القرن العشرين إلى الحض على صناعة المستحيل. تمثل هذا النزوع بقوة في البنية الفكرية التي حكمت الحراك الداخلي للنصوص الروائية، منذ اللحظات التي سبقت صعود المد القومي مروراً بلحظات نجاحه وصولا إلى لحظات انحساره. لم تتوقف هذه الدعوة ولم تتأثر بالتحولات كلها التي طرأت على المشروع القومي بل كانت دائما تطوِّر نفسها من داخل خطابه. من هنا أدَّت الرواية الدور الذي لم تنجح السياسة فيه، وهو النقد الراديكالي الذي يعتمد كمادة له، ليس مجرد الوقائع اليومية والممارسات السلبية للسياسة والسياسيين، إنما نزعات الشعوب وطموحاتها التي تمثل تلك الممارسات خيانة لها، ليس من داخل الأفق الخاص بكل نظام أو دولة على حدة، إنما من داخل العام والشاسع والمشترك الذي تعنيه القومية العربية. لذا نجحت الرواية فعلاً في أن تكون ضميرا وشاهدا فاعلاً وأن تجعل القضايا الكبرى حاضرة في الحياة اليومية حضورا فاعلا وداخلا في التركيب العاطفي والنفسي والسياسي للإنسان العربي الذي لم يجد فيها عنوان اغتراب يضاف إلى عناوين اغترابه السياسي والسلطوي، إنما عنوانا أليفا يحترمه ويجد فيه عناصر الوعي والامل كلها.زينبجعل صاحب «زينب» من الجلد الخاص بالفلاح صفة أصلية وتاريخاً يخترق الزمن. نقرأ: «ذلك الجلد الذي يبتدئ مع القدم ويسري في الزمان من فلاح فرعون إلى فلاح إسماعيل». فتح طه حسين رمزية العمى على فعل النقد الذي طاول مؤسسات راسخة كالتعليم الديني والعائلة، فهو يعلن في «الأيام»: «أن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأبوة لا تعصم الأب والأم عن الكذب والعبث والخداع».تظهر الأفكار القومية بصيغة واضحة وشاملة في رواية «الرغيف» لتوفيق يوسف عواد التي أنهاها عام 1939. إتسمت تلك الفترة بتصاعد المشاعر العروبية في وجه محاولات التتريك، التي كانت السلطة العثمانية تحاول فرضها بالقوة على المنطقة العربية بأسرها. يقول عواد بوضوح لافت: «اليوم ولدت القومية العربية الصحيحة. أمها هي هذه الثورة التي أمشي فيها أنا المسيحي العربي إلى جنبكم أنتم المسلمون العرب، لنحارب عدوا مشتركا هو التركي «.صاغ نجيب محفوظ عام 1959 رواية «أولاد حارتنا» كتعبير عن نظرته إلى مفهوم السلطة التي لا يرى فيها إلا شرا مطلق. يكبِّر الشخصية الأساسية في النص «الجبلاوي « الذي يرمز إلى السلطة ويمنحه صفات متعالية لكنه يدعه يموت ويترك الشر المتمثل في إدريس الإبن الخارج على السلطة، لا لينتج ثورة ولكن ليتحول بدوره إلى سلطة ينتصر فينتصر الشر معه وتكتمل الرؤية الروائية لمحفوظ مع اكتمال دائرة الشر السلطوي.صور غالب هلسا واقع الإنسان المرعوب المطارد إبان تفاقم سلطة المخابرات في روايته» الخماسين» الصادرة في السبعينات. كان المخبر الشخصية الأساسية الذي اجتهد في رسمها، كأنها ليست قائمة في الحاضر فحسب إنما ممثلة لصورة الجحيم منذ فجر التاريخ: «على كرسي قرب البوابة كان يجلس مخبر سمين... بدا وهو مستغرق، ساكن، كأنه يجلس في هذا المكان، في ضوء القمر، منذ زمن طويل ، من مئات السنين...».أنتجت نكسة 1967 خطاباً أدبياً مكرورا تسود فيه ثنائية جلد الذات والدعوة إلى الانتفاض والانبعاث من جديد، مما أدى إلى الحد من ظهور الرؤية النقدية. من هنا تكون رواية «اللاز» للروائي الجزائري الطاهر وطار عملا يمتاز بخروجه على هذه الثنائية ولجوئه إلى صيغة نقدية، تتجلى فيها فكرة الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز عن الثورة التي ترى في كل انتظام للثورة في نظام ما، خيانة لها وانتاجا لنسق سلطوي أبشع بكثير من النسق الذي ثارت عليه. لذا تكون الأسئلة التي طرحتها هذه الرواية حول ما إذا كان تحرير الجغرافيا هو العمل الأساسي للثورة وليس من الضرورة أن يرتبط بتحرير الإنسان، هي أسئلة جوهرية وما زالت مفتوحة حتى هذه اللحظة. البطل الملتبس وهب الفلسطينيون المنطقة حراكها الأكثر فاعلية على المستويات كافة، من هنا كانت لحظة الفدائي والمقاتل الفلسطيني هي لحظة مصعّدة مدفوعة إلى أقصى حدود الترميز. إضطر الجميع إلى التعاطي معها انطلاقا من موقعها الخاص الذي لا يمكن تجاهله، فخلقت هذه اللحظة بنية مغايرة للواقع السائد ومستعلية عليه، مما جعلها تقع ضحيته في نهاية المطاف، لكنها نجحت في أن تقيم بين هذين الحدين سلطة بديلة لسلطة الحدث الفدائي الواقعي، وهي سلطة السرد الذي تأرجح بين حدي الحق والخيبة من دون أن يفقد وهجه وحضوره.يكتب الروائي الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في «السفينة» على لسان بطل الرواية وديع حداد : «لقد جعلنا من الصخر سرا نتقاسمه بيننا. قلنا إن الصخر يرمز إلى القدس: شكلها شكل الصخر، تضاريسها تضاريس الصخر. والناس يصمدون كالصخر يبنون القدس، يبنون فلسطين كلها».كان الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 1982 الذي أدى إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان مناسبة لصناعة روائية ترسم صورة الفدائي المنتصر، على الرغم من واقع التفوق العسكري والميداني الإسرائيلي . يكتب يحيى يخلف في روايته «نشيد الحياة»: «وحمزة يحفظ تضاريس الأرض ومنعرجاتها، يمشي كأن لقدميه عيونا، ابتسم ابتسامة صافية كالندى فوق أوراق الليمون...».صوَّرت سحر خليفة في روايتها «باب الساحة» الكوابيس بعد خيبة أوسلو وفساد إدارة الإنتفاضة في عام1987، ثم كتبت رواية الميراث بعد انكفاء الإنتفاضة وقدوم السلطة التي قبلت بصيغة غزة أريحا، حيث بدا فيها الأفق كابوسيا. لم تنفصل الوقائع التي تعاني منها الشعوب العربية المقموعة عن الهم الفلسطيني بل بدا وكأن في كل هم عربي شيئا من الهم الفلسطيني. من هنا كتب الروائي اللبناني الياس خوري في رواية «يالو»، الصادرة عن دار الآداب عام 2002، عن صورة التعذيب الذي يتحول إلى سيرة كاملة لمن يقع تحت نيره ويحوله إلى كائن التعذيب الذي لا تاريخ له ولا حاضر ولا مستقبل، إلا من داخل هذه البنية المعتمة والمقفلة.يبقى أن نقول إن القومية مثلت الرد الأكثر جذرية على محاولات الاستعمار كلها وهي فصل المنطقة العربية عن جذورها، فنجحت في نسج بناء نظري يجد في العروبة المتحضرة الآخذة بأسباب الحداثة والمتقبلة للدين في آن معا نظاما شاملا، يوحد بين العرب جميعا ويصلهم مع حاضرهم ويتيح لهم الفرصة لصناعة مصيرهم. لذا كان العداء القومي للاستعمار راديكاليا لا تهاون فيه ولم يكن ماثلا في قلب الإطار المفاهيمي التنظيري فحسب، إنما في خط سير عام رعته القومية وعملت دوماً على تعزيزه وإدخاله إلى قلب التكوين الداخلي للمجتمع العربي. نجح فيصل دراج في سبر تلك العلاقة الوثيقة التي تربط الرواية بالذاكرة القومية، فالرواية ليست إلا سرداً يتقصى أحوال المجتمع في حاضره وتاريخه كي لا تذوب ذاكرته، والذاكرة القومية هي المادة الأساس التي تتغذى منها الرواية.
توابل - ثقافات
فيصل دراج في الذاكرة القوميَّة ... القبض على جوهر الأحداث في الرواية العربية
30-03-2008