يبدو أن الفئات اللبنانية المتصارعة اليوم، تريد أن تختبر حرباً أهلية على النمط الصومالي أو الراوندي، وفي وقت يبدي العالم كله رغبته في تجنب الانفجار اللبناني في اللحظة الراهنة، يريد اللبنانيون أن يجربوا حظهم في حرب محلية خالصة، قد يكون من نتائجها أن يفقد البلد وظائفه كافة، حتى تلك التي جعلت منه جرذ اختبار للسياسات الإقليمية والدولية طوال العقود السابقة.

Ad

يقول الرئيس أحمدي نجاد إن أميركا وإسرائيل تتدخلان في لبنان، وهو محق في قوله، وتدعو وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس سورية وإيران إلى الكف عن التدخل في لبنان، وهي تعني ما تقول حقاً، ويعرف اللبنانيون جيداً أن المتدخلين في الشؤون الداخلية اللبنانية لا يمكن أن يتم اختصارهم بهؤلاء فقط، إذ ليس ثمة من دولة في العالم على الأرجح لم تتدخل في لبنان ولم تدع سياسييه إلى تجنيب بلدهم الخراب والدمار. ورغم ذلك كله، رغم كل التحذيرات التي تترى من كل حدب وصوب، يصر القادة اللبنانيون على مواقفهم وينجحون كل مرة في تعطيل الأمل لدى من تبقى من اللبنانيين في لبنان ولم يحزم حقائبه بعد.

لا سبب يدعونا إلى إنكار التأثيرات والتدخلات الخارجية في لبنان، خصوصاً أن بعض أشرس القوى السياسية وأكثرها تنظيماً ما كانت لتكون فاعلة بهذا القدر، الذي هي عليه، لولا أنها تتبع في تمويلها وتسليحها إلى طرف خارجي بما لا يرقى إلى هذه التبعية أي شك، وليس خافياً أيضاً أن الوضع اللبناني المنقسم على نفسه يغري كل من يريد التدخل في لبنان، وتأسيس فرع لبناني لسياساته في المنطقة والعالم، في أن يخوض مثل هذه المغامرة في لبنان، مع ذلك لا نستطيع أن نعفي اللبنانيين أنفسهم من مسؤولية ما يحصل في البلد.

لكن المفارقة لا تقع في هذا المكان بالذات، بل إن لبنان الذي لطالما خاض أبناؤه حروباً أهلية من كل نوع، على امتداد تاريخهم، لم يصل في انحداره حداً يجعل من نفض اليد منه أمراً مرغوباً لدى الخارج. كان لبنان على الدوام نقطة اختبار لصراعات إقليمية وعالمية أحياناً، واستمر منذ ما يقارب الخمسين عاماً على أقل تقدير وهو يراوح في الوضعية نفسها، بوصفه بلداً مطواعاً وسريع التأثر بما يجري من حوله، لكن القوى الإقليمية والدولية لم تلجأ يوماً في صراعاتها إلى إخراج البلد من دائرة الاهتمام، وبقي لبنان بلداً مشرعاً للتدخلات، لكنه أيضاً بقي مغرياً لاستمرار هذه التدخلات، أي أن الصراعات والحروب، التي حدثت في البلد طوال نصف القرن الماضي، كانت تؤدي وظائف إقليمية جلى، لم يكن غير لبنان قادراً على تأديتها، والحق أن المجد السوري والفلسطيني وبعض المصري والإسرائيلي يمت بصلة إلى أدوار أدوها في لبنان طوال العقود الماضية.

خلاصة القول إن حروب لبنان الأهلية كانت على الدوام حروباً مرعية من الخارج، ولم تكن فوضى غير منظمة ومن دون وظيفة على الإطلاق، وهو ما جعل استقرار البلد في فترات قصيرة تفصل بين الحروب الساخنة ممكناً، فلبنان أنهى حرباً أهلية أولى بهزيمة لحلف بغداد في لحظة انتصار الحركات الوطنية العربية ونهوضها في أوائل ستينيات القرن الماضي، لكنه احتفظ بعُدة الحروب كاملة لاستعمالها في حرب أخرى رست على هزيمة هذه الحركة الوطنية العربية في عام 1982، وعاد البلد ليخوض حروباً قاسية من أجل تعزيز موقع سوري - إيراني في مواجهة إسرائيل وأميركا طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ويمكن القول اليوم إن البلد يخوض تتمة هذه الحرب اليوم بعُدة وعديد مختلف، وبأهداف مختلفة أيضاً، تمتد من البرنامج النووي الإيراني، ولا تنتهي عند حدود استعادة دور ما لسورية في المنطقة.

هذا كله يكاد يبدو مفهوماً للبنانيين الذين اختبروا كل هذه الأهوال، لكن ما يخوض فيه اللبنانيون اليوم، قوى سياسية وجماهير مطيفة، ليس أقل من إخراج حروب البلد من وظيفتها وجعلها حروباً عبثية لا طائل تحتها، كما لو أن الفئات اللبنانية المتصارعة اليوم، تريد أن تختبر حرباً أهلية على النمط الصومالي أو الراوندي، حيث ليس ثمة طرف خارجي يريدها حارة على النحو الذي يريدها عليه اللبنانيون، وفي وقت يريد العالم كله تجنب الانفجار اللبناني في اللحظة الراهنة، يبدو أن اللبنانيين يريدون أن يجربوا حظهم في حرب محلية خالصة، قد يكون من نتائجها أن يفقد البلد وظائفه كافة، حتى تلك التي جعلت منه جرذ اختبار للسياسات الإقليمية والدولية طوال العقود السابقة.

* كاتب لبناني