تأليف د. سالم يفوتعن دار الطليعة يطرح الدكتور سالم يفوت في كتابه «مكانة العلم في الثقافة العربية» الصادر حديثاً لدى دار الطليعة في 120 صفحة قضية أساسية ومركزية في العالم العربي هي مكانة العلم ودوره في هذه الثقافة، والقائمة عليها إمكانات التقدم والتغيير والتحقق والحضور في التاريخ والعالم. وسبق للباحث الغربي سالم يفوت أن قدم عدة مؤلفات سابقة في «فلسفة العلم المعاصرة ومفهومها للواقع» و«العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة» و«الزمان التاريخي» و«المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر». و«حفريات المعرفة العربية الإسلامية» و«نحن والعلم» و«النص والتاريخ». يحاول د. سالم يفوت في هذا الكتاب بحث مكانة العلم في الثقافة العربية من ضمن ما اصطلح على تسميته بـ «علم إجتماع العلوم» أو سوسيولوجيا العلم باعتباره البحث المكمل للابستمولوجيا فيدرس نشأة العلوم ونحوها كنشاط غير معزول عن مجتمعنا، بل تجمعه أوثق الصلات بمحيطه الثقافي ولا سيما بحاجات الناس الدينية والحياتية وموجبات الديناميكا الاجتماعية عموما، حتى يجوز لنا التحدث، في نظره، عن عضوية العلم العربي ونعته بالعالمية. يقيم د. يفوت المقارنة التاريخية بين القرنين الثالث والرابع للهجرة وما أسماه عصر النهضة الإسلامية وما حدث في أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر، فتطور العلم لم يحدث لو لم تكن الفنون والصنائع سنداً له، أي بالتفاعل والتلاقح بين مختلف الأنشطة الثقافية والاجتماعية داحضاً مقولتي باشلار وألتوسير بأن الممارسة العلمية هي ممارسة نظرية تملك معاييرها وتطورها في ذاتها ولا تتقاطع مع باقي الممارسات. وبالتالي، فإن التطور الحضاري هو نتيجة تلاقح وتفاعل وتطور تقني، وإن نعت العلم العربي بالعالمية تبرّره بصريات ابن الهيثم وجبر الخوارزمي وتكمن قيمتهما في كونيتهما وفي تمهيدهما لتطورات خلاقة عرفتها العلوم في أوروبا.بيت الحكمةيطرح الباحث يفوت السؤال النقدي الصعب: ما المكانة التي تحتلها الممارسة العلمية في فضاء الثقافة العربية الإسلامية؟ ويعمد للإجابة من جانبين: أحدهما سوسيولوجي اجتماعي والثاني ابستمولوجي معرفي. ويحدد الارتباط القوي والوثيق بين العلم العربي وحاجيات المدنية الإسلامية. وحتى العلوم النقلية نشأت بدافع الحاجة الدينية ولحماية النص الديني من التحريف. يذكر يفوت في هذا المجال أنه حتى تأسيس بيت الحكمة من قبل الخليفة المأمون جاء بدافع التحصين من الحركات الشيعية المعارضة. أي تحصين الإسلام (الدولة) بالعقل اليوناني. وهكذا ترعرع العلم العربي وارتقى بتحريض من المشكلات التي تثيرها الممارسة الاجتماعية واستجابة لها. وحمل أيضاً الطابع الوظيفي العملي والوعي الاجتماعي والتوجه البرغماتي للحياة التجارية والطابع الحضري للمدينة ومصالحها الاجتماعية.كان العلم موصولاً بكل ذلك، والأهم أنه لم يقع تحت هيمنة الفكر النظري المجرد الخالص. ولأنه حصيلة تقاليد علمية مختلفة موحدة تحت قبة الحضارة الإسلامية الواسعة، ظل العلم العربي عالمياً بمصادره ومنابعه وتطوراته وامتداداته. وتجلت براعة العرب في أنهم نسجوا كل الخيوط والمصادر في الحضارة الجديدة واللغة والإيمان وطريقة الحياة المشتركة من دون نفي كلي للتنوعات والخصوصيات. هذا الغنى العلمي الثقافي الاجتماعي في الشرق قابله فقر علمي في الغرب. ويعزو سالم يفوت سبب الفقر العلمي في الغرب في بداية القرون الوسطى إلى الغياب شبه الكلي للنصوص العلمية. هكذا جاءت النصوص والترجمات العربية لاقليدس مثلاً بمثابة نقطة انقلاب علمي. وينطبق الأمر نفسه على العلوم الطبية لجهة نقل مصادر طبية يونانية ومؤلفات طبية أصلية.لكن ماذا عن العلم في المجتمع العربي المعاصر؟ وهل الاعتقاد بعالمية العلم يوقع في غربية العلم؟ لعل هذا، بحسب يفوت، ما رسخته أوهام أيديولوجية القرن التاسع عشر في عقول النخبة. ساورهم الاعتقاد بإمكان استجلاب التقدم واستيراد التقنية. بات المجتمع العربي أمام موقفين إزاء العلم: الأول يجزم باستيراد العلم والاقتداء بالنموذج الغربي، الثاني يرى في ذلك تغريباً ولو مجد الاختراعات النافذة بسلطان العلم وأرفقها بما قال به العلماء المسلمون في العصر الذهبي. لكن ما يهمله الموقفان معاً أي المناصر لاستيراد التقنية والسلفي هو عضوية العلم والتكنولوجيا فهما مشروع تاريخي حضاري في المعنيين السوسيولوجي والابستمولوجي على السواء. رغم ذلك يبقى السؤال: لماذا لم يلعب العلم دور المحرك للحياة الثقافية في التاريخ العربي الإسلامي؟العلاقة بين العلم والفلسفةيرى المفكر محمد عابد الجابري «أن الصراع يجري في الإسلام الدولة والإسلام المعارضة، ويكتسي صورة ممارسة السياسة في الدين والدين في السياسة. وبالتالي لبث العلم خارج الصراع في المعارك الفكرية ولم يسهم في تغذية العقل وتجديد الفكر». أما ماسينيون فيرى أن مشكلة العلاقة بين العلم والفلسفة لم تكن وليدة معاناة حقيقية عند العرب بل وافدة من اليونان. والسؤال الفلسفي لم يعرف طريقه إلى حضارتنا لأنها حضارة تكبت السؤال. ويرد الباحث يفوت على هذا وذاك إذ يرى أن العلم في المعنى السوسيولوجي هو جهد المجتمع نفسه وله بعد بنيوي في التفاعل مع البيئة والارتباط بالمنطلقات الحضارية التي يسعى اليها المجتمع، أي أنه مشروع حضاري يصاغ حول المجتمع في علاقة متفاعلة بين العلوم والثقافة. فما غاب عن العرب هو عدم إدراك الطبيعة التاريخية للممارسة العلمية مما حوّل العلم إلى وظيفته الاجتماعية وأفشل دوره التاريخي. وكانت النتيجة أن تحول المجتمع العربي إلى مجرد متلق للعلم وعاجز عن إنتاجه وغير قادر على السؤال عن كيفية وأسلوب تلقّيه.حيال هذا الواقع، هل في الإمكان طرح شروط لتوظيف العلم والتكنولوجيا في ثقافتنا العربية المعاصرة وفي تجديد المجتمع؟ يحدد الباحث يفوت على الأقل شرطين أساسيين لتفعيل ذلك:1 ـ اعتبار الحاجات البيئية والمحيطية. 2 ـ القدرة على صوغ سياسات علمية وتقنية ووطنية.ولا يذكر شيئاً عن البنى الفكرية والاجتماعية والتربوية ودورها. لكن دور العلوم في النهوض بالمجتمع لا يقل أهمية عن دور المجتمع في تطوير العلم، أي الدمج العضوي للعلم بالمجتمع في إطار مشروع ثقافي وحضاري متكامل، وإلا بقي العلم في عزلة داخل المجتمع العربي، عزلة أساسها التنافر البنيوي بين ثقافتنا ومجتمعاتنا وبين العلم والتكنولوجيا المستجلبتين، ونعجز بالتالي عن تحقيق النهضة العلمية والثقافية.ما الحل لتجاوز هذه العقبة الكأداء؟ يقترح الدكتور سالم يفوت:1 ـ وضع هدف بناء مجتمع مثقف، مجتمع المعرفة.2 ـ إنشاء مراكز التوثيق العلمي وبنوك المعلومات الوطنية.3 ـ تمثل القيم المتصلة بروح العلم ومنهج النقد ومراجعة المفاهيم.4 ـ استيعاب الاستشارة النقدية وسيادة العقلانية للمشاركة في الحداثة والتاريخ.إن نشوء المعرفة الحديثة يرتبط في شكل مباشر بتحقيق قطيعة معرفية مع الفكر التراثي وبالتحرّر من الغيبيات كي لا يبقى مجتمعنا خارج العالم والتاريخ، أو كما قال مرة المفكر التونسي الطاهر لبيب «مجتمع لم تخترقه المعرفة العلمية، ولم يرتبط بتقدم العلم».
توابل - حبر و ورق
مكانة العلم في الثقافة العربية
28-06-2007