هذا الصيف، ومع مرور خمسين عاماً على إنشاء الهيئة الدولية للطاقة الذرية، سوف تتاح للعالم الفرصة لتقييم المؤسسة الأكثر أهمية على مستوى العالم فيما يتصل بمراقبة الأنشطة النووية. ويأتي هذا في الوقت الذي اضطلعت فيه المؤسسة بقدر متعاظم من المسؤولية عن الأمن النووي. ولقد كان إرسال بعثة من المفتشين أخيراً للتحقق من إغلاق المنشآت النووية المستخدمة في تصنيع الأسلحة النووية في كوريا الشمالية، والجهود المتواصلة لكشف نوايا إيران النووية، من بين الأمثلة الأكثر وضوحاً للمهام الرقابية التي تضطلع بها المؤسسة.

Ad

ولكن على الرغم من الإنجازات الكثيرة التي تستحق الاحتفال، فإن التساؤلات تظل قائمة بشأن ما إذا كانت الهيئة الدولية للطاقة الذرية قادرة على توسيع قدراتها في ما يتصل بمكافحة الانتشار النووي وتعزيز سلامة منشآت الطاقة النووية. يؤكد التاريخ أن الهيئة، من دون مدها بقدر أعظم من الصلاحيات، سوف تكون عاجزة عن تقليص المخاطر النووية العالمية بصورة ملموسة.

يرجع أصل الهيئة الدولية للطاقة الذرية إلى الأيام الأولى المظلمة من الحرب الباردة، ففي الخطاب الذي ألقاه رئيس الولايات المتحدة دوايت أيزنهاور في شهر ديسمبر 1953 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت عنوان «الذرة من أجل السلام»، سعى إلى تخفيف حدة المنافسة مع الاتحاد السوفييتي في اقتناء الأسلحة النووية، من خلال الدعوة التي وجهها بإنشاء بنك دولي للوقود النووي. أما إدارة ذلك البنك فكان من المفترض أن تضطلع بها منظمة نووية عالمية جديدة. ورغم أن بنك الوقود النووي لم يخرج إلى الوجود قط، إلا أن بذرة المنظمة كانت قد نبتت، الأمر الذي أدى إلى إنشاء الهيئة الدولية للطاقة الذرية في العام 1957.

ومع الوقت أصبحت الهيئة الدولية للطاقة النووية بمنزلة «بنك عقلي نووي»، فساعدت الدول النامية في تلبية احتياجاتها النووية السلمية. كما عملت الهيئة على تعليم وتدريب مشغلي المنشآت النووية، ووضعت معايير خاصة بالسلامة والوقاية، وروجت للفوائد المترتبة على استخدام الذرة في الصناعة، والزراعة، والطب، وكثير من المجالات. وبعد أن حصلت على دفعة قوية بعد إبرام معاهدة منع الانتشار النووي في العام 1970، اكتسبت الهيئة الدولية للطاقة الذرية سلطات وصلاحيات موسعة فيما يتصل بمنع العناصر النووية من الانحراف. واليوم، تمتد هذه المسؤولية إلى أكثر من مئة وثمانين دولة.

إلا أن الهيئة الدولية للطاقة الذرية، في الممارسة الفعلية، تحمل سجلاً غير منتظم في ما يتصل بملاحقة المحتالين النوويين. ففي العام 1981، وفي أعقاب قصف إسرائيل لمفاعل «أوزيراك» (تموز1) النووي في العراق، شرح المفتش روجر ريختر التابع للهيئة الدولية للطاقة الذرية أمام كونغرس الولايات المتحدة كيف كان صدّام يمنع الهيئة من الوصول إلى مواقع المنشآت النووية. وبعد حرب الخليج في العام 1991، أحرج العراق هيئة الطاقة الذرية مرة أخرى، حين كشف المفتشون عن برنامج نووي سري ضخم. وفي العام 2003، كشف تخلي ليبيا عن برنامجها السري لإنتاج السلاح النووي النقاب عن دولة أخرى تمكنت من مخادعة الهيئة. وأخيراً فقط اكتشفت هيئة الطاقة الذرية أن مصر كانت قد أجرت تجارب نووية منذ عقود من الزمان.

رغم هذه الأخطاء، فإن هيئة الطاقة الذرية أثبتت جدارتها خلال الأعوام القليلة الماضية باعتبارها جهازاً فعالاً في التعامل مع المشاكل النووية. ففي العام 2002، كشف مفتشوها النقاب عن خداع كوريا الشمالية، الأمر الذي عجّل بفرض العقوبات عليها من جانب الأمم المتحدة. (من المؤسف أن هذا لم يمنع انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة منع الانتشار النووي فيما بعد).

كما نجحت هيئة الطاقة الذرية أيضاً بفضل مثابرتها وعنادها في فضح القدر الأعظم من برنامج إيران النووي، ولو أن ذلك لم يحدث إلا بعد أن كشفت مجموعة من الإيرانيين المنشقين عن وجود بعض المنشآت السرية التابعة للنظام الحاكم في إيران. وفي أوائل العام 2003، كان بوسع الهيئة أن تثبت بفضل وجودها على الأرض في العراق أن صدّام لم يكن لديه أي برنامج لتصنيع الأسلحة النووية، وذلك في تناقض واضح مع مزاعم إدارة بوش. وفي العام 2004 كشفت الهيئة عن التجارب غير الشرعية التي كانت كوريا الشمالية تجريها على البلوتونيوم وتخصيب اليورانيوم.

إلى جانب الكشف عن الحقائق، اضطلعت هيئة الطاقة الذرية بدور قيادي في الترويج لمبادرات جديدة للحد من انتشار الأسلحة النووية. كما مارست الهيئة الضغوط من أجل إنشاء مرافق متعددة الجنسيات لتصنيع الوقود النووي، بهدف استئصال الحاجة إلى المنشآت الوطنية التي قد تثير المخاوف بشأن انتشار السلاح النووي. وكان المدير العام لهيئة الطاقة الذرية محمد البرادعي قد وجه الدعوة إلى الولايات المتحدة للدخول في مفاوضات مباشرة مع إيران بشأن برنامجها النووي. كما حاول دفع فكرة تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من السلاح النووي.

بالنظر إلى المستقبل، سنجد أن الهيئة الدولية للطاقة الذرية تواجه تحديات داخلية وخارجية. على الصعيد الداخلي، سوف يتسبب التقاعد الإلزامي قريباً في خسارة الهيئة لما يقرب من %50 من كبار مديريها. فضلاً عن ذلك فإن ميزانية الهيئة لم تعد تسمح بملاحقة حمل العمل المتزايد.

تتلخص أهم التحديات التي تواجه الهيئة في فشلها في التغلب على مقاومة إتمام العديد من الاتفاقيات الشاملة. فبعض الدول تعارض تطبيق شروط معاهدة منع انتشار السلاح النووي على الكميات الصغيرة من المواد النووية. والحقيقة أن رفض ما يزيد على نصف أعضاء معاهدة منع الانتشار النووي لتطبيق هذا البروتوكول الإضافي، الذي يمنح الهيئة قدراً أكبر من المرونة في الكشف عن الأنشطة النووية السرية، من شأنه أن يقوض الأمن العالمي.

من المنتظر أن يؤدي النمو السريع للطاقة الذرية في أنحاء العالم كافة إلى توليد المزيد من التحديات. حتى اليوم، مازال إنشاء المفاعلات النووية مقتصراً على الدول الصناعية. ولكن في الأعوام المقبلة سوف تحاول بعض الدول النامية ذات الخبرة الضئيلة في مجال الطاقة النووية إندونيسيا، وفيتنام، وتايلاند، والأردن، وتركيا، ومصر، وغيرها من الدول أن تلحق بركب الدول النووية.

إلا أن المنظمة لن تتمكن من ضمان السلامة النووية في هذه الدول وغيرها، من دون الصلاحيات اللازمة لفرض الممارسات الآمنة. ومن دون القدرة على جمع المعلومات على نحو أفضل، ومن دون الدعم اللازم من جانب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في فرض عقوبات محددة ومؤثرة على المخالفين النوويين، فلسوف تواجه هيئة الطاقة الذرية صعوبة كبيرة في ممارسة تفويضها الأمني. لذا، وعلى الرغم من استمرار هيئة الطاقة الذرية في الاضطلاع بدور بالغ الأهمية، فإنها سوف تظل تعمل كمسكن، وليس كعلاج، للمخاطر الذرية التي سوف نضطر جميعاً لمواجهتها في المستقبل.

* بينيت رامبيرغ ، عمل في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في عهد جورج بوش الأب، وهو مؤلف العديد من الكتب التي تناولت قضايا الأمن الدولي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»