هل نحن كائنات راقصة بالفطرة؟ وهل حركة الجنين في الرحم هي خطواته الأولى في الرقص؟ رعشته البدائية في لغة الجسد؟ رفرفة ما قبل الكلام، افتتاحية الإيماءة والإشارة.

Ad

كلنا راقصون من المهد إلى اللحد. أفراحنا وأحزاننا كلها رهينة التعبير الجسدي. تاريخ البشرية وماضيها نراهما في تراث رقصها في اهتزازات الجسد. في ايقاعاته يأتي ماضيه. كل ما عاشه من لحظات حزنه وفرحه، اختزن في ميراث الشعوب الراقص وفولكلورها.

الرقص تعبير أبلغ من الكلام وأصدق من اللغة. اتيان الرقص هو مجاهرة الجسد بما يعتمل فيه من المخبوء السري، البعيد عن البوح، المحظور عن الإراقة، عن الكشف والفضح باللسان. الرقص لا يعاقب، لا يحاسب، لا يحاكم، لا تسجنه قوانين. لذا يخرج الجسد كل غليانه، أحزانه، أفراحه، توقه، عصيانه، أعاصير رغباته الدفينة بحرية هاربة من سجن اللغة وإدانتها.

الرقص البحري في الخليج يختلف عن البري. مثلا رقصة العرضة. إنها تعبير عن البطولة والشجاعة والإحماء لمواجهة المعارك والغزوات. أما ايقاع النهمة والرقص البحري فهو كشف واعتراف واضح بجوع الجسد، بعذاباته، بتباريحه، بالرغبات المحمومة، بالشوق الوحشي الجارف، بليالي البعاد والغربة عن فراش وجسد طال انتظاره، الخوف من الوحدة والمجهول. هذا البحر القاسي الذي لا يرحم، الممتد ما بين العاشق والمعشوق يؤجج الأجساد، يُضرم فيها نيران الشغف والرغبة، يرجفها، يرعشها، يهزها هزاً، حتى الثمالة والتعب. حتى فيضان فوهتها بكل ما تحويه. ويأتي ميراث رقص النساء صورة أخرى من معاناة البعاد لرجال يغيبون في البحر الأيام والليالي، في رحلة العشرة أشهر، إلى الهند أو إلى أفريقيا، أو الغوص في مياه الخليج بحثاً عن اللآلئ.

إناث يأكلهن الغياب. شهور طويلة تمضي في ارتحال الرجال خلف الرزق وقلوبهن ناطفة بالشوق والوحشة، يتلاعب بهن الخوف من جبروت البحر، ومن اتقاد عواطفهن. فيأتي رقص النساء كأنه الغياب والهرب.

التمايل السابح في اكتواء الجسد السري، الصامت، المخبوء في الجوارير المقفلة، البعيد عن الإباحة، الذبيح بعذابات الفطام. رقص تسدل فيه المرأة الغطاء على وجهها، تغيب في رقصها وإيقاعاتها المتمايلة في ترتيلة أشواق ظامئة يرددها بدنها في انحناءات وايماءات. يجاهر بما يعتلج فيه، بحصرم لا يستوي ولا يطيب.

الرقص يفضح صاحبه. يكشف ما هو مستور، ما هو رهين الصناديق السرية. الرقص يعري صاحبه، يجعله كتابا مقروءا.

في أي حفل ما يحزن القلب رقص الأرامل، رقص المطلقات، رقص العوانس. أجساد تغيب في فتافيت أحزانها، في ذرات الألم الناضج، من أشواقها الدفينة، من فيضان الوله، من ما لا يجيء، وانطفاء العمر في انتظارات خائبة.