تأليف: ماريو بارغاس يوسا

ترجمة: صالح علماني

Ad

عن دار المدى

لا يسعنا حال الانتهاء من قراءة رواية الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا الجديدة «شيطنات الطفلة الخبيثة»، ترجمة صالح علماني الى العربية، إلاّ أن نسميها ونحن نطلق زفرة طويلة أو تنهيدة حرّى رواية الحب العجيبة. وهذا في الحقيقة دأب الكاتب يوسا الذي تعرّفنا إليه في «امتداح الخالة»، الرواية التي أحبها القراء ولا شك، خاصة أولئك الذين عاشوا في كنف خالات (الخالة هنا تعني زوجة الأب) كريمات غير متحفظات قلبن الصورة النمطية الموصوفة بالشّر والكراهية الملصقة جوراً بزوجة الأب، وهن لا يتورعن عن إطعام أبناء أزواجهن مما سبق لآبائهم أن تذوقوه بسخاء يليق بالمحظيات.

أمّا الشيطنات في روايته الجديدة ففي قصة الحب العجيبة التي لا نسمع بمثلها عندما تروى قصص الحب، الحسية بكل تفاصيلها والرومانسية بكل أحساسيسها، العميقة بكل صدقها والمغلفة بالهجر في كل مراحلها، تظل في نفوسنا تشكو عيباً يرافقها حتى قبيل الصفحات الأخيرة عندما، ببراعة بارغاس يوسا وحده، يصحّحه ليغلق القارئ العاشق غلافها الأخير بضمير مرتاح وشعور بأن الدنيا ما زالت بألف خير، وأن قصة الحب التي رافقها على مدى 400 صفحة لم تكن، والحمد لله، من طرف واحد.

فتاة تغلفها الأسرار

ما دام موضوعنا يتعلّق بقصة حب، وما أكثر قصص الحُب على مدى الأزمان، فما الذي يجعل الشيطنات مؤثرة في النفوس أكثر من سواها؟ الإجابة تكمن في الطريق الوعرة والغرائبية التي اتخذها الكاتب ليأتي بحكاية تبز ما قبلها وتتصدر الواجهة. يجعل من بطلة الرواية المعشوقة فتاة تغلفها الأسرار ويحيطها الغموض من كل جانب ولا شيء فيها حقيقياً، بدءاً من منشأها واتخاذها اسماً غير اسمها الحقيقي وعائلة غير التي ولدت فيها وشقيقة ليست توأمها كما تدعي، انتهاءً بأحاسيسها وعواطفها ووعودها المستقبلية. إنما هي، وليس البطل العاشق ريكاردو سوموكورثيو، الذي يبدو في الرواية سلبياً في كل المواصفات، من يشكل محور الرواية ولولبها المحرك الذي تدور الحوادث في فلكه وتتغير الأماكن والشخوص، الى عدد لا يستهان به من الشخوص الهامشية التي حشدها يوسا ليمنح روايته كلما اقتربت من حافة الإملال شحنة من الإثارة والإدهاش تعيد اليها النفس وتشعلها من جديد، فهناك صديق ريكاردو المدعو خوان بارّيتو الذي يلتقيه في لندن وكان الأخير هجر دراسته ليتعلم الرسم ويعيش حياة الهيبيين بوهيمياً من الطراز الأوّل، ثم ليبرع في رسم الخيول ويتحول من متشرد يستجدي براميل القمامة وجبة طعام الى صاحب مرسم وشقة لندنية بفضل أصحاب الخيول الأغنياء الذين يطرون عمله في رسم خيولهم لوحاتٍ يفاخرون بتعليقها في صالة الضيوف. إلا أن علاقاته الشاذة لم تمهله للتمتع كثيراً بالعيش الرغيد فيصاب بالإيدز ويعود، رفات الى البيرو. هناك أيضاً قادة منظمة توباك أمارو التي اشتهرت في الستينات في البيرو على أساس انها منظمة ماركسية ذات نزعة ماوية وتوجهات غيفارية. التقاهم في باريس وساعدهم ــ رغم عدم انتمائه ــ في تدبير أمور الأعضاء القادمين من البيرو مروراً بباريس ليرحلوا الى كوبا من اجل الانخراط في دورات عسكرية للتدرّب على حرب العصابات في البيرو. وكانت ليلي المعشوقة الغامضة والزائفة احدى «ضحايا» هذه الدورات، إلا أنها سرعان ما تعرفت الى دبلوماسي فرنسي في كوبا وتزوجته رغم فارق السن لتتخلص من أبطال الثورة الذين عادوا جميعاً الى البيرو يحدوهم أمل التغيير هناك، غير أن الحملات العسكرية المنظمة لم تمهلهم كثيراً.

عدوى النسيان

تظل الطفلة الخبيثة والشيطانة، رغم كل الأبطال الثانويين في الرواية والذين يهددون أحياناً لما فيهم من قوة حضور وعمق بسرقة الأضواء منها، وحدها عصب الحوادث المتوتر على أشده دوماً. وسرعان ما تنتقل عدوى الصفح والمسامحة اللذين اتصف بهما حبيبها ريكاردو الى القارئ، فالشيطنات (صفة محببة هنا ولا تبدو مؤذية للطرف الآخر) هي في الحقيقة ضرب من الخيانة والأنانية والخبث تترك في النفس جروحاً لا تندمل. لكن مجرد ظهورها من جديد في حياة ريكاردو المستسلم الى قدره وحبّه الأوحد اللعوب ينسيه كل شيء ويجاريه القارئ المصاب بعدوى السماح في النسيان عساه يفوز. ذاك ما يحصل غالباً في مشهد إروتيكي في العمق يعوضه كما يعوض لريكاردو أيضاً أيام اليأس الممض التي يمضيها في انتظار مدام أرنو.

ذاك ما أصبح عليه اسم المعشوقة وقد صارت زوجة المسيو روبير أرنو، أو المسز ريتشاردسون بعد أن هربت بمدخرات الزوج الفرنسي الى الآخر الانكليزي الذي أثبت أنه أجدر من سابقه في التعامل مع الزوجة الخؤون فيجردها، بمساعدة محامين عتاة من جميع حقوقها وهذا ما حدث لمسز ريتشاردسون التي ما إن عادت الى معشوقها الوحيد ريكاردو حتى اختفت من جديد، انما لتظهر هذه المرة برفقة فوكودا الياباني(تعرفت اليه في احدى سفرات زوجها الانكليزي) الذي ستكون على يديه نهاية مغامراتها وشيطناتها وأكاذيبها بل ونهايتها أيضاً كامرأة، إذ مارس عليها هذا الفوكودا شذوذاً جنسياً لا نصادف مثيلاً له حتى في الكوابيس فلم يكتف بتقديمها الى زواره وطباخيه وسائقي سياراته ليتفرج عليها وهي تغتصب بكل الطُرق المتخيلة، بل كان يعمد الى اجبارها على تناول عقار يولد غازات البطن ليستمتع هو بسماعها تطلق ريحاً في انحراف جنسي قل نظيره.

حطام

لم يبق إذاً من شيطنات الطفلة الخبيثة إلا حطام امرأة. لم يعد يقوى ريكاردو نفسه على ممارسة الجنس معها إنما ــ وهذا ما يجعل الرواية قصة حب لا مثيل لها. يبقى حبه هو نفسه وشغفه بها وولعه بانتظارها لم يتغير مذ تعرف اليها مراهقاً الى أن يتجاوز الخمسين كهلاً. أكاذيبها وخياناتها وهجرانها إياه، كلها امحت أمام وجودها معه أخيراً، وإن حطاماً.

رواية أبدع كاتبها في تخيّلها. لا يداخل قارئها الملل ولا الشعور بالخسران.

تذوّق

أما لمسة اللون فتضفيها، الى جانب أزهار الحدائق، العربات الصفراء لباعة مثلجات دونوفريو الذين يرتدون أردية بيضاء وقبعات سوداء، ويجوبون الشوارع نهارا ليلاً معلنين عن حضورهم ببوق يسبب لي نفيره البطيء مفعول قرن همجي، وذكرى خرافية مما قبل التاريخ. مازال يسمع تغريد العصافير في حي ميرافلوريس هذا، حيث تقطع الأسر الصنوبر عندما تصل البنات إلى سن الزواج، لأنهم إذا لم يفعلوا، فسوف تظل المسكينات عازبات مثل عمتي ألبيرتا.