جعلت الرمال المتحركة طوال ثلاثة عقود، شعوب مجلس التعاون وأنظمته تتعلم القيمة التاريخية من وجود وحدة متكاملة في شتى المجالات لتأسيس قوة إقليمية مهمة وفاعلة، فكان إعلان الدوحة التاريخي يؤسس لمشروع السوق الخليجية المشتركة والعملة التاريخية الموحدة. انتهى اجتماع قادة وزعماء مجلس التعاون الخليجي الثامن والعشرين، في العاصمة القطرية الدوحة 2007 في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر، وقد توقف القادة أمام ملفات تاريخية مهمة، وملفات معتادة ويتوقع مناقشتها الجميع باعتبارها باتت «كليشيهات» المؤتمرات العربية التقليدية، ابتداء من إدانة الإرهاب ورفضه وانتهاء بالقضية المصيرية والصراع العربي الإسرائيلي والدفع بعملية السلام والحوار التي انبثقت من مؤتمر أنابوليس مروراً بكل ملف عربي ساخن، فلا نسمع إلا مفردات الشجب والتأييد والإدانة وهلمّ جرّا، ولكن المسألة هذه المرة وبعد ما يقرب من العقود الثلاثة، فقد دار النقاش حول مسائل جوهرية تدفع بعملية هذه المؤسسة الإقليمية ونظامها السياسي نحو مسألتين أرى من الضروري التوقف عندهما، لكونهما ستكونان نقلة نوعية في تاريخ مجلس التعاون، الذي انبثق في ظروف خليجية أمنية معقّدة، فقد عرف العقد الأول من عمر المجلس حرباً مدمّرة بين الجارين العراق وإيران، وبالرغم من تعقيدات تلك الحرب وكواليسها وقفازاتها الخفية، فإن النظام الوليد الجماعي كان معنياً بأن يقف على مسافة معينة بين الطرفين لأسباب لسنا بصددها الآن، غير أن بلدان مجلس التعاون كانت غير راضية عن مضمون النظامين الإيديولوجيين، فإذا ما كان النظام العقائدي في بغداد مصدر قلق دائم وتحريض خفي، فإن الجمهورية الإسلامية الوليدة حينذاك، لم تخف مشروعها وأجندتها في تصدير الثورة وتغيير المنطقة، فكان من أحد تلك الأسباب في اشتعال الحرب الإيرانية–العراقية.وحالما هدأت مدافع تلك الحرب الطاحنة، وجدت شعوب المنطقة نفسها أمام جنون غزو صدام للكويت، فلم يحترم أبسط قواعد العلاقات الدولية للجوار السياسي، فما بالنا إذا ما عرفنا أن ذلك الجار كان أخاً عربياً، وضمن اتفاقات واضحة في الجامعة العربية لم يضع لها الدكتاتور المقبور أبسط المعايير والقيم الأخلاقية، فاكتسحت دباباته في مناخ دولي جديد، كان فيه العالم يشهد انهيار الجليد السوفييتي وإمبراطوريته، وتسمع الأذن مصطلحاً بدا غريباً لأول وهلة هو مصطلح العولمة، بينما أخذت تشيع بقوة مفردات مثيرة للحواس والحيوية السياسية لدى كل الشعوب وهو مفردة حقوق الإنسان والحريات ورياح الديموقراطية.هكذا بدا المشهد ينطلق بقوة من أدخنة مناخ الغزو وحرب الكويت والبلقان المتفجر، بعد أن اهتزّ العالم برمّته وليس مجلس التعاون الخليجي بمفرده، الذي توقف حائراً أمام القوة العسكرية واتضحت إمكاناته الإقليمية، غير أن الالتحام والتماسك على مستوى الموقف السياسي رسمياً وشعبياً كانا يؤكدان أن مشروع مجلس التعاون بدأ يتحرك في اتجاهات عدة، وليس فقط في البعد الأمني، ففي ظروف الشعب الكويتي ومحنته تعلّمتْ شعوب المنطقة معنى التكافل والتآخي وتقاسم المعاناة مع شعب وبلد شقيق، من دون الحاجة إلى الصراخ الإعلامي الرسمي، الذي كان يسود طوال عقد من لقاءات القمة بين الزعماء، فالمحنة والكوارث تبرزان المواقف الحقيقية الصادقة للجميع وتفرزان الأقنعة والوجوه. كان على الجميع أن يستوعب الدرس التاريخي وينطلق نحو تعزيز المشروع السياسي الحيوي لبلدان المنطقة، ولكن هذه المرة بإشراك الشعب في القرارات القادمة، والعودة إلى الشرعية الشعبية باعتبارها المتراس الأساسي للأنظمة وديمومة استمراريتها، وتحرك قطار مجلس التعاون ببطء شديد في تحوّلاته نحو الأفضل، فكانت عجلة الدفع الخارجي دائماً محركاً للأسئلة، ففي الوقت الذي كان الاتحاد الأوروبي يؤسس لمشروعه نحو الوحدة الأوروبية كنا نحن لانزال نتردّد إزاء التحولات المصيرية لمشروعنا القادم. ومع المحاولات الجادة بإزالة الخلافات الحدودية بين بلدان مجلس التعاون، وبناء مؤسسات متينة وتفاعلات بين دوله وشعوبه، كانت هناك أخطار خارجية قائمة نبعت من بعد سقوط نظام صدام واتسّاع النزعة التوسعية والتدخلات الواضحة من إيران في الشأن العراقي والخليجي، في وقت تسعى فيه الدول إلى بناء علاقات سلمية متكافئة، بينما الأفق الأمني كان ضبابياً من خلال نزعة التسلّح التي بدأت ملامحها النووية الأولى تتجلّى في الأزمة العالمية بين إيران والمجتمع الدولي. هذه الرمال المتحركة طوال ثلاثة عقود، جعلت شعوب مجلس التعاون وأنظمته تتعلم القيمة التاريخية من وجود وحدة متكاملة في شتى المجالات لتأسيس قوة إقليمية مهمة وفاعلة، فكان إعلان الدوحة التاريخي يؤسس لمشروع السوق الخليجية المشتركة والعملة التاريخية الموحدة، وعلى ضفاف هذه التحوّلات الاقتصادية وقرارات القمّة انبثق مشروع ثقافي وسياسي هام، هو تشكيل مصطلح جديد قادم، علينا تعميقه دلالياً وفعلياً وإعلامياً، هو مصطلح «المواطنة الخليجية» الذي سنتحدث عنه في مقالة لاحقة، فما يفعله الاتحاد الأوروبي «مثالنا المحتذى!!» والذي نردد دائما حوله عبارة التعلق والهيام، يبقى نموذجاً علينا أن نراه بعمق وتفاصيل وليس برؤية سياسية مسطّحة وعاجلة لا غير!!* كاتب بحريني
مقالات
التعاون الخليجي بين الرمال المتحركة
13-12-2007