كلام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (828-889) على فضائل الشعر (عند العرب طبعاً)، وكما ورد في مقدمة كتابه «الشعر والشعراء»، كلام شائع ومعروف مفاده بايجاز ان الشعر منجم علوم العرب، وكتاب حكمائهم وسجل تاريخهم وكنز أيامهم والحصن المنيع الذي يحمي تقاليدهم... «كان حق هذا الكتاب (الشعر والشعراء) ان أودعه الأخبار عن جلالة قدر الشعر وعظيم خطوه. وعمَّن رفعه الله بالمديح، وعمّن وضعه بالهجاء، وعما أودعته العرب من الأخبار النافعة، والأنساب الصحاح، والحكم المضارعة لحكم الفلاسفة (...)». ولم تكن هذه النظرة الى الشعر والشعراء لدى العرب مقصورة على إبن قتيبة، فالمراجع الأدبية العربية غنية بهذا التقدير الرفيع للشعر ويشير إبن قتيبة الى ذلك بقوله: «غير أني رأيت ما ذكرت من ذلك، في كتاب العرب، كثير كافيا، فكرهت الإطالة في إعادته (...)».من نافل القول ان نكرر بصوت عال ونحن نعود الى كلام إبن قتيبة، ترحيبنا بموجة التجديد التي طرأت على الشعر العربي، شكلاً ومضموناً، منذ اواسط القرن الماضي. ولن نقف طويلاً عند هذا الموضوع لأننا نكره بدورنا «الإطالة في إعادته». بيد ان ما حملنا الى الحديث عن إبن قتيبة وكلامه على الشعر والشعراء هو ما قرأناه في كتاب بالفرنسية صدر لدى «غاليمار» في باريس سنة 1958 للشاعر والناقد الفرنسي روجيه كابوا (1913-1978) عنوانه «فن الشعر» Art poetique، جاء فيه قوله: «للكلام على فضائل الشعر أكتفي بما قاله الاديب العربي إبن قتيبة، ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (اذكر الاسم كاملاً إجلالاً لصاحبه) في مقدمة كتابه الشعر والشعراء، التي نقلها الى الفرنسية المستشرق غودفروا روموميين (...)»، ثم يورد الشاعر الفرنسي كلام إبن قتيبة على فضائل الشعر كاملاً.الدادائيةتجدر الاشارة الى ان كتاب روجيه كايوا، الذي يتضمن تقدير صاحبه لرأي إبن قتيبة في الشعر، قد صدر في اواسط القرن العشرين، أي بعد ما يزيد على ألف عام من وفاة إبن قتيبة (889)، وفي الفترة التي شهدت فيها اوروبا موجة عارمة من المذاهب والتيارات والمدارس الادبية والفنية، مستظلة جميعها خيمة الحداثة. نذكر منها على سبيل المثال «الدادائية» وهي حركة ادبية وفنية نشأت في سويسرا سنة 1916 وانتشرت في سائر الدول الاوروبية ومن أبرز دعاتها الشاعر الفرنسي تريستان تزارا (1893-1963)، ثم «السوريالية»، أطلقها الشاعر الفرنسي اندريه بريتون (1896-1966) الذي أصدر «البيان السوريالي» سنة 1924 وسرعان ما التف حول بريتون أدباء وفنانون كبار من فرنسا وأوروبا في بادئ الامر، ثم من سائر بلدان العالم. وفي النثر هناك «الرواية الجديدة» مع الكاتب آلان روب غرييه (1922- )... ورغم هذا التنوع الغني في الاتجاهات الادبية والفكرية والفنية في اوروبا والتطور المذهل في عالم الشعر، يصر روجيه كايوا على تبني رأي كاتب عربي كبير في الدور الذي يؤديه الشعر في حياة البشر. ونحن مع تقديرنا لهذه اللفتة الكريمة من الشاعر والناقد الفرنسي واعتزازنا بأديبنا إبن قتيبة، ننظر باستغراب الى موقف كايوا لأن ما ذكره إبن قتيبة عن «فضائل الشعر» يعود الى زمان غير زماننا والى مجتمع قبلي يختلف جذرياً عن المجتمعات البشرية الراهنة. لم يعد الشعر موصى به من شياطين الشعر ولم يعد الشاعر «لسان حال» قبيلته فيوقف شعره على مدح شيوخها ونشر أمجادها في الآفاق وهجو أعدائها وتعداد مخازيهم ولم يعد باستطاعة بيت من الشعر ان يقضي، معنوياً، على قبيلة بأسرها «فغض الطرف إنك من نمير...»، او يرفع من قدر قبيلة خاملة «قوم هم الأنف والأذناب غيرهم...». هذا بالنسبة الى أغراض الشعر ومصادر الوحي، اما بالنسبة الى عمود الشعر وعروضه فقد انهارت مع مجموعة الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي «أباريق مهشمة» ومع رفض أنسي الحاج لها في مجموعته «لن». وكان لجماعة مجلة «شعر» في لبنان دور بارز في تطوير الشعر شكلاً ومضموناً، ثم كرت السبحة مع العديد من الشعراء العرب المعاصرين، إن لم نقل مع أكثريتهم، حتى غدا الشعر عندنا وعند سوانا في أفق آخر قد نعود إليه لاحقاً. والدليل على صحة استغرابنا أن روجيه كايوا نفسه غيّّر موقفه من الشعر في أواخر حياته ففي كتاب له عنوانه «نهر آلفيه» (Le Fleure Alphée) ـ نهر الفيه في الأساطير اليونانية القديمة مقدس يجري في أعماق البحر من المصب باتجاه المنبع ـ يعبر كايوا عن موقف مغاير بل مبتوت الصلة بالموقف الذي عبَّر عنه في «فن الشعر» إذ بات يؤمن بأن الشعر مفتاح كل شيء وبأن السر، كل السر، هو في عودة الشاعر الى الوراء، أي الى عهد الطفولة وإلى ما تتسم به الطفولة من طهارة ونظرة مفعمة بالدهشة والاستغراب وتساؤلات بريئة يطرحها الطفل على نفسه في سعيه على فهم العالم المحيط به وإدراك معنى وجوده فيه. وتبقى تلك التساؤلات في النهاية من دون جواب لأن العالم سر كبير والحياة سر أكبر.ثروات الآخرينلذا ينبغي لنا، مع انفتاحنا على بؤر الضوء في العالم ولكي يكون تطورنا الأدبي والفكري تطوراً سليماً، ألا نهمل تلك الثروات التي نملكها والاّ نعمد الى تقليد «الآخرين» على نحو متعسف. كما ينبغي لنا أيضاً ألاّ ننسى أن الحداثة الأدبية والفنية في الغرب واكبت الحداثة في مختلف الحياة، إن سياسياً أو فكرياً أو علمياً أو دينياً أو سياسياً، في حين لا تزال مجتمعاتنا العربية في غالبيتها تجتر رغم البهرج الخارجي، ما تحدَّر اليها من الماضي السحيق من أفكار ميتة ومعتقدات ميتة وعلوم ميتة، وان ما يجري في العالم الاسلامي اليوم، خاصة هذه العودة الجامحة الى العصبيات المذهبية المقيتة يجعلنا نتساءل بمرارة ما جدوى اقتباس مناهج وأساليب أدبية تحتاج الى الكثير من الجهد لاكتناه مضامينها عن مشاهير الأدباء في العالم أو التاثر بها في حين يحتفل بعضنا كل عام بارتداء ألوف الفتيات الحجاب، أو اكراههن على ارتدائه لبلوغهن الثامنة من العمر؟!على هامش الحديث عن فضائل الشعر، ننظر بعين التقدير الى تنويه روجيه كايوا بنص أدبي عربي يعود الى القرن التاسع الميلادي. لكأن الشاعر الفرنسي أراد بهذا التنويه الصادق أن يحثنا على استثمار ما لدينا من «ثروات» مخبوءة في بطون أسفار تراثنا القديم، ولما كانت تلك الثروات التي نملك مألوفة لنا، فإننا لا ندرك قيمتها الحقيقية بل نجري وراء ثروات أكثر بريقاً قد لا تترك بين أيدينا سوى ظلالها. وقبل روجيه كايوا فإننا لم نعرف نحن العرب أهمية كتاب «ألف ليلة وليلة»، مثلاً، إلا من خلال إعجاب الغرب به، ويوم اضطررت الى قراءة رواية «الخيميائي» للكاتب البرازيلي باولو كويلو (لأني كلفت بنقلها الى اللغة العربية) خلتني أعيد قراءة إحدى حكايات «الف ليلة وليلة».
توابل - ثقافات
فضائل الشعر بين إبن قتيبة والشاعر الفرنسي روجيه كايوا
28-08-2007