Ad

النظام الإسلامي نظام مدني خالص، والدولة الإسلامية دولة علمانية، نظامها السياسي يقوم على البيعة العامة، اختيار الناس للرئيس، والرئيس ليس نائباً عن الله أو ابناً لملك، بل هو نائب عن الشعب.

العلمانية لها معنى سيئ في ثقافتنا المعاصرة، فهي ضد الدين، وقرينة الإلحاد والمادية والإباحية، وربما الكفر والفسوق والعصيان. وتعني عند الحركة الإسلامية فصل الدين عن الدولة، وهو ضد ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومرة أخرى الفاسقون، ومرة ثالثة الضالون.

كما تعني فصل الدين عن مظاهر الحياة الأخلاقية والقانونية والسياسية، والوقوع في الأخلاق النسبية المتغيرة والشريعة الوضعية التي أحياناً تحلل الحرام كالخمر والشذوذ الجنسي، والسياسة البشرية التي تقوم على المصالح وصراع القوى. الدين علاقة خاصة بين الإنسان والله «علاقة رأسية» في حين أن القانون علاقة عامة «علاقة أفقية» بين المواطن والمواطن. لذلك رفعت العلمانية شعار «الدين لله والوطن للجميع». ومن ثم أصبح من الصعب من الناحية التداولية استعمال لفظ «علماني».

ومع ذلك الإسلام دين «علماني» في جوهره. إنما جاء الخلط بين العلمانية «الغربية» والعلمانية «الإسلامية» وإسقاط ظروف الأولى على الثانية. فقد نشأت العلمانية الغربية بمعنى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، أي بين الكنيسة والدولة، نظراً لنشأة المآسي والمذابح من الجمع بينهما في شخص البابا رئيس الكنيسة والدولة أو في شخص الإمبراطور رئيس الدولة والكنيسة، وكان صراعاً على المصالح والأرض في عصر الإقطاع، وكان الحل الوحيد الباقي هو الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، وإن تعايشا معاً، كما هي الحال في دولة الفاتيكان في روما عاصمة الجمهورية الإيطالية. وانتقل كلاهما إلى العمل في الخارج وليس في الداخل، في التبشير والاستعمار خارج أوروبا وليس في الصراع على السلطة والحدود داخلها.

وبدأت العلمانية الغربية بوضع أسس معرفية جديدة، البداية بالعالم وليس بالنص، والاعتماد على العقل وليس الإيمان، والاتجاه نحو الطبيعة بعيداً عما بعد الطبيعة، والتحول من التمركز نحو الله إلى التمركز نحو الإنسان، والتفكير في البدن وليس في النفس، والاتجاه نحو الجديد وليس القديم، والاستعداد للمستقبل على هذه الأرض وليس نكوصاً نحو الماضي خارجها. العقل تجاه الطبيعة ينتج العلوم الطبيعية، ومع المجتمع ينتج العلوم الإنسانية. وانتهت سلطة القدماء، أرسطو وبطليموس والكنيسة إلى سلطة المحدثين، جاليليو وكبلر ونيوتن في العلم، وبيكون وديكارت في الفلسفة، ولوثر وكالفن في الدين. وخرجت الثقافة الغربية خارج حدودها بعد سقوط غرناطة في 1492، وتصدر أوروبا مركز العالم بدلاً من العالم الإسلامي. انتهى العصر الوسيط كما انتهى العصر القديم اليوناني الروماني من قبل، والعصر الإسلامي من بعد. وبدأ العصر الحديث وشعار الحداثة التي تـُدمر الآن فيما بعد الحداثة.

وهي ظروف مختلفة عن ظروف العالم الإسلامي. فالإسلام ليس به سلطة دينية إلهية مثل الكنيسة أو البابا. وليس به سلطة سياسية تقوم على الاختيار الإلهي «الثيوقراطية» أو على الوراثة، كما هي الحال في النظام الملكي. السلطة في الإسلام للعلم والعلماء وعلوم الدنيا. والعلماء هم أهل الاختصاص، علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية، «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». التمييز إذن بين رجال الدين ورجال السياسية تمييز في ظروف نشأة العلمانية الغربية وليس في ظروف نشأة الإسلام. بل إن الإسلام مثل البروتستانتية فيما بعد بدأ ضد رجال الدين من اليهود والنصارى، الأحبار والرهبان، الذين استغلوا الدين للمصالح الشخصية ولتبرير السلطة السياسية للملوك والأباطرة. الإسلام دين إصلاحي. تعلم من التجارب السابقة، من تجربة موسى وداود وسليمان في اليهودية، ومن الصراع بين النصرانية والإمبراطورية الرومانية في المسيحية.

الإسلام دين يقوم على العقل والواقع ومصالح الناس والقاسم المشترك للبشر جميعاً. مُثـُل التنوير التي يعتز بها، العقل والعلم والطبيعة والإنسان والحرية والإخاء والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم جزء منه، وأسس يقوم عليها كما قررت الحركات الإصلاحية المعاصرة.

التوحيد ليس عقيدة تتجاوز العقل مثل التثليث، بل هو توحيد الذات الإنسانية وطاقاتها الداخلية والخارجية ضد مظاهر الازدواجية مثل النفاق والرياء وانفصام القول عن العمل، وتوحيد المجتمع ضد التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وتوحيد البشرية ضد مظاهر العنصرية والتمييز بين الأقوياء والضعفاء وسياسة الأقطاب، والتفرقة بين المراكز والمحيط. والشريعة لها مقاصد خمسة، ضروريات للحياة الإنسانية: الحياة والعقل والقيمة (الدين)، والكرامة (العرض)، والثروة (المال). وهي أسس «علمانية» خالصة. والشريعة الإسلامية وضعية تقوم على أسس في العالم، ومكونات السلوك البشري. والأحكام الشرعية لها أسباب وعلل وشروط. والاجتهاد مصدر رئيسي للتشريع بعد الإجماع لتجديد فهمها طبقا لظروف كل عصر، «إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها». والمصلحة أساس التشريع، «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن».

النظام الإسلامي نظام مدني خالص. والدولة الإسلامية دولة علمانية بهذا المعنى الإسلامي. نظامها السياسي يقوم على البيعة العامة، اختيار الناس للرئيس «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والرئيس ليس نائباً عن الله أو ابناً لملك، بل هو نائب عن الشعب. ونظامها الاقتصادي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج الزراعي والصناعي وليس الخدمات، «الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار». ونظامها الاجتماعي يقوم على تذويب الفوارق بين الطبقات وعلى إقامة مجتمع العدل والمساواة «ليس منا من بات جوعان وجاره طاو». ونظامها الإعلامي يقوم على حرية الرأي وضرورة الرقابة على جهاز الدولة. فالحسبة هي الوظيفة الرئيسية للحكومة. الدين النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل عالم قادر.

فأين الخلاف بين الإسلام والعلمانية؟ إنه مجرد صراع على السلطة بين تيارين رئيسيين وقوتين سياسيتين وجناحين متصارعين في الدولة، أيهما يخلف النظام القائم، نظام التبعية للخارج، والفساد والقهر في الداخل؟ والدولة سعيدة بها وتؤججه، تضرب هذا الفريق بالفريق الآخر مرة ثم تضرب هذا الفريق الآخر بالفريق مرة أخرى حتى يضعف الجناحان، ويبقى القلب، وتفتت المعارضة، ويقوى الحزب الحاكم لغياب البديل.

اليسار الإسلامي يسار علماني. ويعلن ذلك على الملأ نظراً وعملاً ضد الكهنوت الديني والتسلط السياسي. وهو ليس مثالاً بعيد المنال أو رؤية طوباوية أو هدفاً صعب التحقيق. فالتجربة التركية والتجربة الماليزية ماثلتان في الأذهان. اليسار الإسلامي هو الطريق الثالث بين السلفيين والعلمانيين، بين المحافظين والمجددين، بين القدماء والمحدثين. ولقد اقتربت بعض التيارات الإسلامية من ذلك بالبرامج السياسية الجديدة التي قدمها الإخوان في مصر والأردن وسورية ولبنان واليمن. فالإسلام دولة مدنية تقوم على التعددية السياسية. فهل يستطيع العلمانيون تغيير أنفسهم وتخفيف عدائهم لبعض الأجنحة الليبرالية في التيار الإسلامي لإنقاذ أنفسهم من تلميع نظم الحكم والتعاون معها على مواجهة الإسلاميين كهدف مشترك، بدلاً من التعاون والحوار معهم في جبهة وطنية واحدة ضد نظم الفساد والتبعية والطغيان؟

* كاتب ومفكّر مصري