تزوير الانتخابات علة، مثلما الاحتكام لجهة فاسدة علة إضافية، فمن هو في هذه الحالة خيار الحل وملجأ المتنافسين؟ سلطات داخلية أم منظمات دولية يثق بها المتخاصمون لحل خلاف مستفحل، وما هو أخطر من تزوير الانتخابات هو جر الناس من دون وعي بما يفعلون، والتصويت ليس بأخطر من تزييف الوعي التاريخي للجماهير في خياراتها الحرة في الحياة.

Ad

إن قلنا إن الانتخابات نزيهة وشفافة في عالم نامٍ نكون قد جافينا الحقيقة، وإن قلنا إنها انتخابات مزيّفة ومزورة نكون أيضاً جافينا الحقيقة، ولكن حقيقة كل الانتخابات أنها ثنائية في طبيعتها، وهي تحمل النقيضين والوجهين السائدين لعملة واحدة، ولو قمنا بتفحّص الأرقام المحفوظة في مراكز مراقبة الانتخابات أو متابعة ما يقوله المراقبون المحايدون، لاتّضحت لنا صورة ما نقول عن تلك الثنائية، فهم على الأقل المراقب الدولي المحايد، والذي تبعثه الجهات الدولية لمتابعة الانتخابات، غير أنه ليس كل الانتخابات تخضع للرادار السياسي ذاك، ولا يتابعها مرصد قادر على اختراق المحصنات الأسمنتية بمتاريس أمنية، وألعاب بيروقراطية خبيرة في فن الإغواء والتضليل والتلاعب، بل هناك قوى في السلطة قادرة على تكميم الأفواه وارتداء الأقنعة، مما يجعل المعارضة باستمرار كطرف مناهض يتوق إلى السلطة، من خلال صناديق الاقتراع بعد تخليه عن العنف، ولكنه يتوجس قلقاً وخيفةً من التزوير.

بتلك الروح الباعثة على الشك والريبة، تدخل المعارضة حملتها الانتخابية، ويواصل مرشحوها النواب أو مرشحها الرئاسي إلى وضع العربة أمام الحصان، قبل أن تظهر فرز النتائج النهائية، معلناً أن الانتخابات وصناديقها مزورة، لمجرد أن دائرة واحدة قد جاءت نتيجتها منافية لتوقعاته أو أنها صدمته بقوة، وهو الذي راهن بكل سهولة على أن تلك الدائرة أو المنطقة تخضع لنفوذه السياسي وجماهيريته. ربما لكل تجربة انتخابية وقائعها وخصوصيتها، ولا نريد أن نخضع منطقة محددة لهذا المقياس أو ذاك، فما يهمنا هو الظاهرة المنتشرة حول ادعاء الأطراف المتنازعة على سدة الحكم، خاصة الرئاسة، والتي أكثرها عرضة للنزاع الدموي، الإثني والقبلي، من مجرد كونها دائرة انتخابية محدودة، يتنازع عليها هذا المرشح أو ذاك.

ويزداد النزاع حدة كلما كانت النتائج متقاربة، والأجواء السياسية تعبر عن توازن قوى متجاذبة، تربكها القراءات السياسية الخاطئة والأرقام الإحصائية القائمة، على البيانات العاجلة وتذبذبات الأصوات ومزاج الرأي العام في فترة الاستطلاعات للناخبين، تلك الإضاءات أو القناعات المترسخة والثقة العمياء لدى المنافس المرشح للرئاسة، إزاء رئيس راسخ في السلطة، وقد نجح في تطويق سلطته بأحزمة من البطانة والقوة العسكرية والأمنية والبيروقراطية في أجهزة سياسية وإعلامية ومنظمات جماهيرية وشعبية، صارت قادرة على منح نفوذه قدرة مهيمنة، كما هو نموذج شافيز وموغابي، مقابل نماذج معاكسة في دول أخرى تلعب بورقة القمع والديموقراطية معاً، فتكون بتلك الصورة أكثر تضليلاً للشارع من تلك الأنظمة الواضحة في توجهاتها السياسية، مما يجعل التنافس عنيفاً على مقعد السلطة أيام الحملة الانتخابية، ويجعل الشعارات والأجواء متوترة في الخطب والشعارات والثقة المفرطة في النفس، ينتج بعدها ردود فعل أعنف في حالة خروج أي طرف من حلم الانتصار والدخول في إحباط الهزيمة والخسارة، فيكون البحث عن تبرير الخسارة معلقاً بمشجب التزوير، ذلك المشجب الجاهز الصنع في كل البلدان النامية والرمادية، بل حتى في بلد كالولايات المتحدة، حيث شكك آل غور بتزوير انتخابات فلوريدا، عندما هزمه بوش في الدورة الانتخابية الثانية. وتعرضت الولايات المتحدة لهزة دستورية كبيرة لم تتعرض لها في تاريخها قط، ولكن تبقى المحكمة الدستورية حكَماً عادلا في مثل تلك «النزاعات العظمى» غير أن تلك المحاكم في بلدان نامية فاسدة، تصبح في أغلب الأوقات محفظة مالية في جيب الرئيس الراغب في إعادة انتخابه، والقادر على منح عطاءاته وخيره إلى تلك البطانة الواسعة من الموظفين في أجهزة متعددة، يكون القضاء أحدها، وكلما أصيب هذا الجهاز بتدرن رئوي صار المجتمع برمته عرضة للفساد وموت الثقة، فمع موت القضاء في أي بلد يفقد الناس ثقتهم بكل شيء.

لهذا تزوير الانتخابات علة لوحدها، مثلما الاحتكام لجهة فاسدة علة إضافية، فمن هو في هذه الحالة خيار الحل وملجأ المتنافسين؟ سلطات داخلية أم منظمات دولية يثق بها المتخاصمون لحل خلاف مستفحل، لاسيما أن الخلاف على نتائج الانتخابات المزيفة –كما يعتقد الطرفان- أدت إلى حمامات الدم وساهمت في هروب المئات من بيوتهم، تاركين خلفهم آثار جرائم حرب وإبادة إثنية واضحة؟!

من شاهد في الأيام الأخيرة مجازر كينيا والعنف الأهوج والأعمى، يدرك أن التزييف التاريخي لوعي الناس يبدأ من لعبة سياسية أخرى، هي حجة تزوير الانتخابات، حتى إن كانت محتملة أو مختلقة، لكن الضحايا المدنيين العزل، هم من يدفعون ثمن الهزيمة والخيبة عندما تبتعد سدة الحكم عن حلم المعارضة وزعيمها المحّرض.

السؤال: لماذا اختار رئيس المعارضة المهزوم تأجيج جمهوره على بقية السكان، لمجرد كونهم ينتمون إلى قبيلة الرئيس المنتصر؟ وإذا كانت هناك قاعدة مجتمعية كبيرة يستخدمها الرئيس في لعبته الانتخابية فما ذنب الناس العاديين في قراهم وبيوتهم؟ هل لكونهم ينتمون إلى قبائل منافسة فقط وصنفت في خانة قبائل الرئيس الحقيقية أو المؤيدة؟ الكثير من المواطنين العادين يندفعون إلى صناديق الاقتراع بسبب وعيهم الشخصي أو المؤثر الإعلامي أو قدرة الحملة الانتخابية على الإقناع أو عناصر عدة محتملة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون الرئيس المنتصر جلس بزبانيته «البلطجية» يقنع كل مواطني كينيا بالتصويت له بتلك البساطة. من نفخوا في نار الهزيمة هم دعاة الكراهية باسم العدالة والفقر، وهم من يتوقون إلى الشراكة في سرقة الثروة القائمة، التي صار الناس فيها وقودا وضحايا لحرب أهلية وعرقية طاحنة.

ما هو أخطر من تزوير الانتخابات هو جر الناس من دون وعي بما يفعلون، والتصويت ليس بأخطر من تزييف الوعي التاريخي للجماهير في خياراتها الحرة في الحياة، فإذا ما كان التزييف الأول حالة استلاب جزئية في السياسة، فإن التزييف الآخر لعبة مهيمنة في خيارات الإنسان لحريته.

* كاتب بحريني