أن يلغي نظام ما اهتمامه بمجتمعه ويعتبر رأيه العام نافلاً وتحصيل حاصل، ومجرد «موضوع» أو «رعية» تابعة ملزمة باتّباع ما يشير به عليها قائدها، ويُعتبر أي إنفاق اجتماعي مكرمة ومنّة وصدقة تخلّى فيها عن بعض ما يملك، وإن ترتبط البرامج الداخلية كلها ببرنامج دفاع النظام عن نفسه من غدر الزمان والخارج... يكن نظاماً ريعيا.

Ad

انحسر قليلاً مصطلحا «الدولة الريعيّة» و«الاقتصاد الريعيّ» عن التداول والبحث، ربّما بسبب الطبيعة الستاتيكية والنسبية لتطبيقاتهما، وربّما لأن البلدان المقصودة بهما سارت شوطاً في تحديث معيّن أدّى إلى نشوء بنى اقتصادية أكثر تعقيداً، سمحت باستدامة الأنظمة الحاكمة والتفاتها إلى تحقيق مكتسبات متفاوتة في أوقات الفراغ. رغم ذلك يمكن الانتفاع من المفهومين كما حاول بعضهم، وتطويرهما في حقلهما ذاته، أو ربما في حقول جديدة، من مثل أن ننظر في أنظمة ريعيّة، ومعارضات ريعيّة، بانحراف نحو الحال السياسية.

الدولة الريعيّة هي التي تعتمد على خيرات باطن أرضها، أو المساعدات الخارجية، أو التحويلات المالية لمواطنيها العاملين خارجها. والاقتصاد الريعيّ هو الذي تكون كتلته الأساسية معتمدة على البندين الأخيرين. فيمكن الاستنتاج أن جوهر الأمر هو الارتكاز إلى ما لا يعتمد على الاستثمار أساساً في العمل والعلم، وعلى آليّات الاقتصاد الحديث، أو على الإنتاج في «الداخل». حقل السياسة العربيّ يعجّ بهذه الأعراض، فلعلّها «السياسة الريعيّة» إذاً.

لا يجب أن يتعارض هذا الأمر مع أهمية «السياسة الخارجية» التي ازدادت، وسوف تزداد أكثر في قابل أيام عصر العولمة والاستقطاب، إضافة إلى استقطاب هذه المنطقة لاهتمام العالم، الأمر الذي يبدو أنه لن يتراجع في المدى المنظور. المسألة في أن تكون هذه السياسة الخارجية نواة للسياسة الداخلية، أو أن تكون السياسات الداخلية تابعة (بالمعنى الرياضي) لمتغيرات الخارج، وحسب.

وقد تناقلت الأنباء غضب الحكومة السعودية من تصريحات مسؤول سوري يتحدث فيها عن «شلل» في دور السعودية في المنطقة، كما يلاحظ المراقبون دائماً حساسية النظام السوري في مسألة «محورية دوره» في المنطقة، حين يؤكد أنه الرقم الأساسي (بل الصعب) في الأزمات المحيطة جميعها: في العراق وفلسطين ولبنان.

مسألة «الدور الخارجي» هذه مشروعة بالطبع، ولا توجد دولة في العالم لا تهتم بها. ولكن هذا الدور يكون عاملاً مطلوباً ومساعداً، وتطالب به الدول الأخرى عندما تتقاعس دول معينة عنه، لأن مفعوله يكون خيراً غالباً.

«الريعية» التي نتكلّم عنها شيء آخر. فأن يلغي نظام ما اهتمامه بمجتمعه ويعتبر رأيه العام نافلاً وتحصيل حاصل، ومجرد «موضوع» أو «رعية» تابعة ملزمة باتّباع ما يشير عليها به قائدها، ويُعتبر أي إنفاق اجتماعي مكرمة ومنّة وصدقة تخلّى فيها عن بعض ما يملك، وإن ترتبط البرامج الداخلية كلها ببرنامج دفاع النظام عن نفسه من غدر الزمان والخارج... يكن نظاماً ريعياً، لا يتمتع بمقومات الشرعية الحديثة، بل حتى بعض القديمة أيضاً. وإن احتكر لنفسه حق الاحتكاك بالخارج، وحوَّل «مواطنيه» إلى خوارج يحل قتلهم وأسرهم وتشريدهم في الآفاق حين يتطلعون إليها للتعلم أو للاستنارة أو للتعاطف، يكن آنذاك نظاماً ريعياً، تستولي على سياساته وتشكل أساسها «المساعدات» أو «التحويلات» الخارجية.

إضافة إلى السياسة الرسمية السورية، يمكن اعتبار الملف النووي الإيراني شكلاً من ممارسات الريعية السياسية هذه. فبعد عجز التيار الإصلاحي هنالك عن استكمال مسار الإصلاح، وعودة القوى التي أنتجتها أورام الثورة من مثل قضية الرهائن إلى الواجهة، ضعفت مقومات النظام الإيجابية، وأخذ يفتش عن طرائق جديدة لإعادة إنتاج ذاته، وظهر الملف النووي وتحرك إلى المقدمة ليغطي على التفاعلات الداخلية البنيوية. بعض السياسات الإيرانية الأخرى تندرج أيضاً في هذا السياق، ومنها إثارة مسألة البحرين اخيراً، ولو بضعف ومداورة وتراجع بعد تقدم. ولا تُحدِّث عن العراق!

من جهة مقابلة، لا بد من رؤية مرتكزات هذه السياسات في خارجها، بل في مركز ثقل خارجها، في سياسة الإدارة الأميركية الحالية، خصوصاً في هذا الشرق الأوسط.

هنا نرى سياسة خارجية من الحجم الثقيل، هي أساس لصراعات انتخابية داخلية، أكبر بكثير مما اعتادته هذه الصراعات. وفي ذلك انتصار لأفكار الدور الخارجي وضرورته، على حساب من كانوا يدعون إلى انغلاق الولايات المتحدة على نفسها بدورة نموها الهائلة ومميزاتها الفذّة. لكن عدم صحة الانعزال لا تبرر المبالغة في آليات التدخل في الخارج بحيث تغدو وَذمةًً في عمليات تداول السلطة، حتى في «أميركا» ذاتها. الأصح أن يبقى الدور متناسباً مع حجم وأهمية تلك الدولة العظمى، وهو مطلوب وطبيعي، ولكن الآليات السياسية ينبغي أن تطغى على الآليات الفظّة، التي تنتج فظاظة في غير مكان، حيث لا تتحكم بنتائجها المحلية بنية دولة متماسكة. ولعلّها واضحة حاجة السياسة الأميركية في العراق إلى مزيد من «السياسة».

بريعيّتها السياسية هنا وهناك، تعطي الولايات المتحدة ذريعة قوية للسياسات الريعية لدينا، للأسف.

* كاتب سوري