أضحى دور اليمين واليسار في الحياة السياسية العربية الراهنة دوراً ثانوياً يؤديه ممثلون من الدرجة الثانية على مسرح سياسي يعجزون به عن المنافسة الناجحة لكسب تأييد الناخبين. فالغموض والمساومة على الهوية لا يشكلان استراتيجيات قابلة للحياة. ومن ثم رتّب عجز قوى اليمين واليسار عن تقديم نظرة مستقبلية لأوطانها، تعميقاً لأزمة الوجود والفاعلية التي تمر بها. منذ فترة ليست بالقصيرة والقوى والأحزاب اليمينية واليسارية في عموم العالم العربي تمر بأزمة وجود وفاعلية ربما مثلت صعوبة تحديد هويتها السياسية أبرز إرهاصاتها. فمصطلح العلمانية- بكسر العين لا يلقى قبولاً عند معظمها، وذلك خشية انطوائه على رفض ضمني للإسلام أو للثقافة الإسلامية. والواقع أن قوى اليمين واليسار العربية في معظم الأحوال لا تستند على ايديولوجيات علمانية تفصل تماماً بين الدين والحياة العامة على نحو يمكن مقارنته بعلمانية مصطفى كمال أتاتورك أو بالنموذج العلماني الفرنسي، بل هي فقط لا تنطلق في برامجها من أفكار دينية أو تستلهم العقيدة الإسلامية كمرجعية لها. ومع أن توصيف هذه القوى الذاتي لما ليست عليه هو أمر سهل بالنسبة إليها، فهي ليست مناهضة للإسلام وليست بالرافضة للقيم الحضارية السائدة في مجتمعاتها، إلا أنها تجد صعوبة بالغة في تحديد هويتها على نحو إيجابي.أما مصطلح «الديموقراطية» الذي يفضله أكثرها، فهو لا يقدم الكثير حيث ان معظم الحركات السياسية في المنطقة، ابتداء من الإسلاميين وانتهاء بالنظم السلطوية وشبه السلطوية الحاكمة تزعم اعتناقها للديموقراطية. ولا يوجد في الحقيقة معيار يثبت أن اليمين أو اليسار أكثر التزاماً بالديموقراطية إذا ما قورنوا بالقوى الأخرى. بل إن وصف الليبرالية، وهو ما يفضل الكثيرون إطلاقه على أنفسهم أو دمجه في اسم الحزب أو الحركة المعنية، تعبير خادع بالدرجة ذاتها: فهل يعني ذلك الليبرالية بالمفهوم الأوروبي أم الأميركي؟ أم انه يعني إحياء التقاليد الليبرالية في السياسة العربية التي ازدهرت في مصر والمشرق العربي من عشرينيات إلى أربعينيات القرن الماضي؟ وكيف يمكن أن تنطبق هذه العبارة على القوى والأحزاب التي ما زالت مسمياتها تحمل كلمة «اشتراكية» أو تلك التي كانت إلى أمد قريب تنسب نفسها إلى أفكار القومية العربية؟ إن غياب الهوية الواضحة عن مجمل قوى اليمين واليسار أضعف إلى حدٍ كبير من قدرتها على تطوير برامج متماسكة وعلى صياغة خطاب سياسي متميز عن خطاب الإسلاميين والنظم الحاكمة وقادر على منافستهم.وللإنصاف، ينبغي القول إن قوى اليمين واليسار تتحرك في سياق سياسي واجتماعي طارد. فعدد كبير من المجتمعات العربية، التي كانت دائماً مجتمعات محافظة في توجهاتها الدينية والاجتماعية، قد ازدادت غلواً في التمسك بهذا التوجه خلال العقود الماضية، وهو ما قلّص من الحيّز المتاح لصياغة أفكار ورؤى غير دينية حول السياسة والتعبير عنها. وربما مثّل الغموض في هوية قوى اليمين واليسار نوعاً من التكيف مع المحيط الاجتماعي الرافض لتقبُّل برامج ليست مستندة على الدين. إلا أن نتائج الانتخابات التشريعية خلال الأعوام القليلة الماضية على امتداد العالم العربي، أظهرت بجلاء أن مساومة اليمين واليسار على هوية واضحة قد جاءت بنتيجة عكسية إذ انها أبعدت القواعد الانتخابية التقليدية لهذه القوى من دون أن تنجح في استقطاب ناخبين جدد لم يجدوا سبباً يدعوهم إلى تأييد أحزاب لا تفترق في مواقفها جوهرياً عن غيرها من الأحزاب الحاكمة أو الحركات الإسلامية؛ وتعجز في الوقت نفسه عن تقديم ما تقدمه الأحزاب الحاكمة من عوائد مادية ومعنوية أو ما تقدمه الحركات الإسلامية من خدمات اجتماعية.أضحى دور اليمين واليسار في الحياة السياسية العربية الراهنة دوراً ثانوياً يؤديه ممثلون من الدرجة الثانية على مسرح سياسي يعجزون به عن المنافسة الناجحة لكسب تأييد الناخبين. فالغموض والمساومة على الهوية لا يشكلان استراتيجيات قابلة للحياة. ومن ثم رتّب عجز قوى اليمين واليسار عن تقديم نظرة مستقبلية لأوطانها، تعميقا لأزمة الوجود والفاعلية التي تمر بها. والمعضلة هي أنه مادامت استمرت اللعبة السياسية في العالم العربي مختزلة في ثنائيات المنافسة-المواجهة الناظمة للعلاقة بين نخب الحكم والتيارات الإسلامية ستظل إمكانات الدفع نحو عملية تحول ديموقراطي حقيقية تخرجنا من وضعية السلطوية الراهنة شديدة المحدودية. فالحصيلة الرئيسية لغياب أحزاب يمين ويسار فعالة قادرة على المنافسة، تتمثل في هامشية وهشاشة تيارات الوسط السياسي، أي تلك التيارات التي قادت معظم التجارب المعاصرة الناجحة للتحول الديموقراطي خارج العالم العربي.*كبير باحثين بمؤسسة «كارنيجي للسلام العالمي»- واشنطن
مقالات
أزمة اليمين واليسار في العالم العربي - غياب الوسط السياسي
08-10-2007