الأرجح أن الجرح الكردي النازف بطيءٌ ويهدد عملياً استقرار أربع دول، بعضها مازال مؤثراً وأساسياً في المنطقة، ولن يتم تضميده بالسهولة التي يتخيلها البعض، وحين تنشغل المنطقة بمثل هذا الملف الساخن والخطير الذي يهدد قلب آسيا ويطرق أبواب أوروبا بقوة، يصبح الملف اللبناني تفصيلاً نافلاً لا يستحق أن تبذل الجهود لأجل تحقيق نجاحات فيه.

Ad

كان لتصريح وزير الخارجية التركي علي باباجان الذي زار لبنان أخيراً أثرٌ طيبٌ لدى اللبنانيين، إذ قال الوزير التركي إن «استقرار لبنان مهم لكل المنطقة»، وأثنى وزراء الترويكا الأوروبية على هذا التصريح حين صرح متحدث باسم الوزراء الثلاثة لصحيفة محلية في بيروت قائلاً «نحن كدول أوروبية نشعر بأنكم كلبنانيين تملكون القدرة على صون استقلالكم، رغم الوضع المتفجر في المنطقة، وأنكم قادرون على تغيير الأمور في المنطقة عوض أن تغيّر المنطقة وضعكم». مثل هذه التصريحات المشجعة للبنانيين على التوافق تلقى صدى طيباً في لبنان الذي يتطلع السياسيون فيه إلى كل أشكال الدعم، ونادراً ما يرفضونه من أي جهة أتى، لكن الوزير التركي يصرح تصريحه هذا في الوقت الذي يستعد فيه الجيش التركي للتوغل في شمال العراق، وسط قلق دولي بالغ من وصول الأمور في تلك المنطقة إلى نقطة اللارجوع.

الأرجح أن الجرح الكردي النازف بطيءٌ ويهدد عملياً استقرار أربع دول بعضها مازال مؤثراً وأساسياً في المنطقة، لن يتم تضميده بالسهولة التي يتخيلها البعض، مما يعني أن احتمال توغل الجيش التركي في شمال العراق واصطدامه بقوى كردية تناضل من أجل تحقيق قدر من الاستقلال في كردستان العراق، سيضع الدول المعنية مباشرة بالشأن الكردي على فوهة بركان يسهل التكهن بلحظة انفجاره ويصعب تحديد ساعة خموده، وهذا ما دفع الرئيس السوري بشار الأسد، المعني مباشرة بهذا الملف، إلى المسارعة في اتخاذ موقف حاسم حياله، تأييداً للعملية العسكرية التركية في شمال العراق. (طبعاً لم يقم بين اللبنانيين المتحالفين مع نظام بشار الأسد والحريصين على وحدة أراضي العراق واستقلاله وانسحاب الجيوش الأجنبية منه، من يندد بهذا التصريح الذي يخالف هذه المبادئ جملة وتفصيلاً، وهذا مألوف في لبنان، إذ الاستنساب سيد الموقف في كل أمر).

الخلاصة من هذا كله أن حلفاً ثلاثياً في المنطقة يبدو قيد التشكل حول جرح نازف، وأن هذا الجرح ليس مرشحاً للالتئام في القريب العاجل، وأن الدول الثلاث المعنية بهذا الملف، مرشحة لتصبح عرضة لعنف قد يتنامى مع الأيام، وليس مستبعداً أن تسارع بعض القوى النافذة في المنطقة إلى تسليح وتمويل الفصائل الكردية التي تبدي استعدادها للدفاع عن أمل الأكراد الوحيد في كردستان العراق.

قد يبدو هذا الأمر بالنسبة إلى تركيا الحليف التاريخي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة جزءاً من الترددات الطبيعية لسياساتها الخارجية والداخلية، لكن مثل هذه الترددات التي قد تطول الداخل الإيراني والداخل السوري ستجعل سحر الحلف الإيراني-السوري ينقلب على الساحر نفسه، فيضطر هذا الحلف إلى تجرع الكأس نفسها التي يفخر أنه عرف كيف يجعل خصومه يتجرعونها.

لا شك أن الملف الكردي الذي افتتح على مصراعيه في الأيام الأخيرة لن يقفل بين ليلة وضحاها، وحين تنشغل المنطقة بمثل هذا الملف الساخن والخطير الذي يهدد قلب آسيا ويطرق أبواب أوروبا بقوة، يصبح الملف اللبناني تفصيلاً نافلاً لا يستحق أن تبذل الجهود لأجل تحقيق نجاحات فيه، مما يعني أن استقرار لبنان المنشود، الذي تلهج به أوروبا وتركيا على نحو متزامن، ليس أكثر من تثبيت الأمر الواقع الحالي، ونشدان هدنة طويلة بانتظار فراغ الدول المقررة في المنطقة من ملفاتها الأكثر خطورة.

قد ينجح اللبنانيون في تمرير استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية بحد أدنى من الخسائر، فقط، لأن القضية اللبنانية لا تعود قضية مهمة وجوهرية، حين تلح قضايا المنطقة الأخرى وتتفتح جروحها المندملة، وقد ينعم لبنان بهدوء حذر، لأنه لم يكن في يوم من الأيام حاجة جوهرية للقوى النافذة في المنطقة، ولأنه كان على الدوام مختبراً تجرى فيه «بروفات» حربية صغيرة تمهيداً لخوض الحروب الكبيرة. ألم يكتب أكثر من محلل إثر حرب يوليو 2006، أن تلك الحرب كانت نسخة مصغرة عن الحرب الفعلية التي سيكون ميدانها الخليج العربي في وقت من الأوقات، وأن الطرفين المعنيين بتلك الحرب استفادا من الدروس وعدلا في الخطط بناء على مسارها ونتائجها؟

لكن التقاطعات الإقليمية والدولية التي تحض اللبنانيين على تجنب الصدام العنيف في ما بينهم قد لا تمنع أصحاب الرؤوس الحامية في لبنان من تجربة حظوظهم في الحروب بعدما خاب أملهم في السياسات، والتاريخ اللبناني القريب يثبت أن الحروب الأهلية اللبنانية الأعنف خيضت في الوقت الفاصل بين هدنتين.

* كاتب لبناني