منذ أطلق رولان بارت مقولته الإشكالية «لذة النص» من خلال كتاب يحمل العنوان ذاته عام 1973، لم تهدأ الأقلام كتابة وتعقيباً وتوسعاً في المنظور وزاوية التلقي. حقاً فتح بارت الباب واسعاً أمام قراءات أدبية لا نهائية وكانت هذه العبارة بمثابة منشّط ومحفز ذهني لخيالات القراء.

Ad

شخصياً لست أدري كيف فتنتُ بهذه المقولة. أذكر مرة كنت في قمة الانهماك في إعداد أحد فصول دراستي لرسالة الماجستير، اتصل بي أحد الأصدقاء وسألني ماذا تفعل الآن؟ أجبته: أعيش «لذة النص»، في إشارة إلى النصوص الشعرية التي أقرأها وكانت موضع الدراسة.

بهذه المقولة «اللذيذة» أصبح للنص جسده ومواطن الغواية والفتنة والجمال، مع العلم أن هناك نصوصاً تخلو من أية لذة أو فتنة أو جمال وهي نصوص باهتة، لا تشدك إليها. لم تتوقف حدود مشابهة النص بالجسد عند الفتنة أو مواطن الغواية، وإنما هناك عنصر قد يكون أكثر أهمية، يتمثل في تماسك الجسد والتحام أعضائه وترابطها. بالطبع ثمة «مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله»، كما ورد في الحديث الشريف.

يحتاج النص الإشكالي «اللذيذ» إلى «مُضغة» خاصة تمثل منبع الدلالة والمفتاح الذي تنطلق منه المعاني والإشارات اللفظية.

لم تتوقف مقولة بارت عند حدود الترجمة والتأمل في سياقها الحداثي الأوروبي، وإنما سعى النقاد إلى ربطها بمقولات عربية خالصة من عمق التراث، من بينهم الناقد السعودي د. عبدالله الغذامي الذي رأى أن هناك نصوصاً في تراثنا العربي تحيل إلى المضمون ذاته، مستشهداً في هذا السياق بمقولة للحاتمي في وصف النص ورد فيها: «إن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد من الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخوّن محاسنه، وتعفّى معالم جماله»

دار نقاش كبير بين النقاد بشأن مرجعية النظريات النقدية المعاصرة ومكانتها في التراث البلاغي العربي. لا أجد في أصل المقولة ما يغويني بالالتفات إليها أو تبنيها، بقدر ما يهمني جماليتها وصدقها في مقاربة النصوص الإبداعية. حين أجد الأداة النقدية التي تتيح لي قراءة النصوص ومكاشفة مواطن الغواية فيها والتلذذ بما تحمل من معان وإشارات حرة منطلقة ولا نهائية، أقول في هذه اللحظة لا يهمني مصدر هذه المقولة ومؤسسها، سواء كان الجرجاني، أو الحاتمي، أو رولان بارت.

أحدثت النظريات النقدية المعاصرة ثورة في طريقة تلقينا للنصوص، ابتداء من البنيوية والنهج الشكلاني الصّرف وما تبعها من جملة نظريات أخرى، جمعت في مصطلح واحد أُطلق عليه «اتجاهات ما بعد البنيوية». تتداخل هذه الاتجاهات وتلتقي في بعض مساراتها، وإن كانت في مجملها تتفق على إعادة الحياة إلى المؤلف بعدما قتله البنيويون. تتحدث مقالة مشهورة كتبها بارت ذاته حين كان في قمة بنيويته سنة 1968 قبل أن يثور على هذه المقولة ويتحول إلى مدارس أخرى، عن السيميائية وإشارية اللغة ونصوصية الأدب.

اليوم بعد مضي أكثر من ثمان وعشرين سنة على رحيل بارت عن عالمنا، تحتاج النصوص الإبداعية إلى نقاد آخرين يعيدون إليها الحياة ويجددون الدماء فيها. ولا تتأتى القراءة النقدية المبدعة من اتباع أساليب مدرسية جامدة أو فرض مناهج وتفصيلها عنوة على النصوص الإبداعية، وإنما يحتاج النقد إلى قراءة مخالفة للسائد وإلى المغامرة في اكتشاف عوالم جديدة، لأن القارئ المثقف الواعي هو منتج للنص ومساهم في تشكّله وصياغة معالم «جسده» وهو الذي يبثّ الحياة فيه ويعيده إلى الوجود.