تحاول أثينا وأنقرة أن تبنيا حديقة في البيت الأوروبي على ضفاف بحر إيجة، بعد نزاع طويل يمتدّ منذ عام 1922، عندما تمت حالة من الصراع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فكان على الجانبين التركي واليوناني أن يشعرا بقلق ونتائج تلك الحرب الدموية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وبصعود كمال أتاتورك القومي النزعة إلى بناء دولة تركيا العلمانية والحديثة، و«المؤوربة»، فكان على اليونانيين دفع ثمن طويل لبقائهم كسادة في الأراضي التركية والتي كانوا يعتبرونها، آسيا اليونانية. وامتد الصراع بين جانب يتوق إلى التحرر وجانب يبحث عن بقائه التاريخي الطويل فتحول الصراع السيادي إلى شكل ومظهر ديني بين المسلمين والمسيحيين، فنتجت عن تلك العملية المدمرة، أكبر هجرة تاريخية عرفتها اليونان في العصر الحديث من الإمبراطورية العثمانية «مليونا مهاجر»، مما ترك جرحاً عميقاً في الذاكرة اليونانية، انعكس في ثقافة وأدبيات تلك المرحلة التي عاشتها الجاليات اليونانية في وطنهم الثاني بعد الوطن الأم. ولهذا لم يكن من المستغرب –حسب قول المؤرخين- أن تجد نفسك في سنة 1905 أن تسمع في شوارع إسطنبول خمس لغات دفعة واحدة، كالعربية والفارسية والأرمنية والتركية واليونانية، التي كانت لغة علية القوم والشرائح المتعلمة والمثقفة في المجتمع الإسطنبولي. وكلما نشبت أزمة على الضفاف الأخرى من جزيرة قبرص وجدت العناصر المتبقية من اليونانيين في تركيا نفسها في وضع متأزم وصدام بسبب النزعة القومية والدينية، مما يضطرها إلى الرحيل والهجرة مجدداً، خوفاً من الإبادة والتطهير، كما حدث للهجرة الكبيرة بعد الحرب العالمية الأولى، فتعاقبت على قبرص نزاعات بين القبارصة الأتراك واليونانيين في أعوام 1954، و1963، وأخيرا 1974، عام غزو الجيش التركي لقبرص، مما دفع من تبقى في تركيا إلى تفضيل الرحيل النهائي، ولم تظل في تركيا إلا مجموعة صغيرة لا تشكل ثقلاً سياسياً أو مجتمعياً، إنما حافظت الكنيسة الأرثوذكسية على وجودها، كموقع تاريخي وموطئ قدم للذاكرة والجذور.بعد تلك الجروح التي لم تندمل بين البلدين المتجاورين والمتنازعين باستمرار على الحدود المائية والجزر الصخرية، فإن خمسين سنة من القطيعة السياسية وغيرها، كانت بحاجة إلى شجاعة وقرار سياسي جريء، فكان على كوستاس كرامنليس كرئيس وزراء جديد لليونان، أن يخطو نحو تركيا بمدّ يد الصداقة للجوار، وإنهاء تلك العزلة والتوتر والخلاف وكسر الحاجز النفسي، وإذابة جليد اختزن في العمق الروحي والثقافي للشعبين المتجاورين. كرامنليس بخطوته التاريخية تلك لم يمنع غبار البرلمان اليوناني من الهدوء، فضج حزب الباسوك المعارض، الذي أصيب أيضاً بالانقسام في داخله، إزاء الموقف من الزيارة، فطرف رأى أنها ليست مجدية ومجرد تضييع للوقت، بينما يراها الطرف الآخر في الحزب، أنها خطوة ضرورية من أجل إقامة الجسور وخلق نوع من الاتصال والتواصل، بهدف خلق حوار مستمر. وبالرغم من هدف الزيارة البروتوكولية الطابع، فإن أردوغان وكرامنليس، تعرضا لملفات ساخنة، كملف الخلافات في بحر إيجة والملف القبرصي وغيرهما، فحميمية الحفاوة واللقاء الدافئ بين الطرفين جعلهما يتعرضان، للجوانب الثقافية والاجتماعية بين الشعبين، بحيث يتبادل الطرفان البعثات التعليمية وتسهيل المنح الطلابية في البلدين، إلى جانب زيادة العلاقات السياحية والتجارية التي تفتح أبواباً وآفاقاً واسعة من التعاون بما فيها شمال قبرص، من دون أن ينسى الزعيمان أهمية احترام حقوق الإنسان في بلديهما إزاء الموروثات التاريخية والدينية، فكان على الجانب التركي تأكيد ذلك، مثلما قام كرامنليس بزيارة إلى البطريرك في الكنيسة الأرثوذكسية في إسطنبول، بهدف تأكيد رمزية الحقوق الدينية وثوابتها التاريخية في المجتمع التركي. ما حدث في الماضي البعيد والقريب من صراعات دينية، تسببت في إراقة دماء، استمرت في أزمنة متفاوتة حتى العقود الأخيرة من القرن المنصرم، لم تزح الآلام العميقة بالكامل بين ثقافة وذاكرة الشعبين اليوناني والتركي، ولعل زيارة كرامنليس تفتح أبواباً مغلقة كان مفتاحها الحقيقي شعور الطرفين بحاجتهما إلى بعضهما، كونهما يملكان مفتاح الحل في جزيرة قبرص، ومفتاح الحل في تسهيل مهمات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، فمن دون معالجة الملفات المعلقة، تبقى العضوية أكثر تعقيداً. وإذا ما كان المناخ السياسي منقسما لتلك الزيارة في الطرفين، فإن عالماً أوسع في المناخ الأوروبي، وجد في تلك الخطوة الإيجابية تحقيقاً لهدف حيوي داخل البيت الأوروبي، فلا يمكن أن تصبح أجواء البيت ودية، طالما أن هناك أعضاء متنازعين حول عضو أوروبي آخر هو قبرص، ويعيشان مناخا من العدائية والخلافات تحت سقف البيت الواحد، الباحث عن معالجة جدية وجذرية لكل مشاكله العالقة.* كاتب بحريني
مقالات
كرامنليس يعزز جسر الصداقة
31-01-2008