مشاكس عنيد، كنخلة سمراء مثقلة بمواسم الهموم والأحزان، تنتصب في وجه الرياح في صحراء الرمل والزمن. قرأناه في «الديمقراطية اولاً» و{شرق المتوسط» وخماسية «مدن الملح» و{الأشجار واغتيال مرزوق» و{أرض السواد» وصدرت له قبل أشهر لدى «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت مجموعتان من القصص القصيرة. عبد الرحمن منيف قامة فكرية وأدبية. تناولت أعماله قضايا الحرية والديمقراطية والتغيير العقلاني وهموم النفس العربية المطعونة في كبريائها وتصحّر التاريخ العربي المعاصر والجغرافيا المهتزّة!أضاء منيف على هواجس المرأة العربية في كيانها ووجودها ودورها، كما تناول مسائل الحب والجنس والموت وتحديات مجتمعات النفط وأسئلة البداوة ومواجهات الانسان العربي في قلقه وغربته.حوار مسجّل (غير منشور) (ايلول سبتمبر 1999) بعيد صدور ثلاثيته «أرض السواد» أضاء فيه منيف على العراق في خصائصه الحضارية وتقاليده وتنوعات الشخصية الشعبية العراقية عبر تاريخها الطويل مروراً بالحقب الاستعمارية وصولاً الى التاريخ المعاصر، في قالب سردي روائي شائق. والكلام على العراق، في حمأة ذلك الجحيم المستعر، له دائماً وقع الجدّة إذ تسهّل قراءة تاريخ العراق فهم الحاضر المأسوي.كلام منيف معرفة بدقائق الامور على خلفية طعم المرارة والتشرّد وفلول صور الأحلام الهاربة من «ملح المدن» العقيمة.ثلاثية «أرض السواد» رواية سردية يختلط فيها التاريخ بالوجوه والتقاليد وبتحديات المستقبل. لماذا العراق اليوم؟ (ايلول سبتمبر 1999).عشت في العراق. أمي نورة أرضعتني مع الحليب حبّ العراق. أهديت اليها هذه الثلاثية والى جبرا ابراهيم جبرا، إذ كان يفترض ان نكتب معاً هذه الرواية. العراق أرض عريقة في التاريخ وقد صدّرت مطلع الثلاثية بكلمات من شاعر ملحمي سومري: «يا سومر، ايها البلد العظيم بين جميع بلدان العالم/ أنت مغمور بالنور (...) من مطلع الشمس الى مغربها/ ان نواميسك المقدسة سامية لا يمكن إدراكها/ المعرفة التي تأتي بها/ كالسماء لا يمكن ان تمس (...)». وبعد سومر وآكاد جاء البابليون ثم الغرباء ودّمروا أور وحصل خراب كبير وموت وتشرد فكتب احد شعرائها: «أيها الرب، أنانا، لقد دمرت المدينة/ كقطع الخزف المهشّمة ملأ أهلوها جنباتها/ هدمت أسوارها وناح الناس (...) إيه يا أور... إن ضعفاءك وأقوياءك قد قضى عليهم الجوع والحرب والدمار ونيران الحقد (...)». هذه الرواية (أرض السواد) كتبتها (1999) للفت نظر العالم الى ما يحصل في العراق والى ما يعانيه شعب كبير من غطرسة القوة والقهر وحرمان الطفولة من ا لحياة. إضافة الى ان العراق يقدم إمكاناً هائلاً لكتابة رواية متنوعة. اخترت فترة تاريخية معينة من أيام داود باشا، زمن السلطة العثمانية، وصراعه مع الإنكليز ثم أضأت على حياة الشعب والشخصية العراقية بتنوعاتها واليوميات ومشاهد الأحياء والمقاهي وتعامل الناس مع الحاكم وكره المستعمر وكيفية التعاطي مع الازمات ومواجهة المؤامرات. انها مشاهد مقطوفة من تاريخ العراق. مشكلة العراقي الراهنة (1999) امتداد لازمات قديمة سابقة. تكلمت في روايتي على بشر وأرض وتاريخ.عبد الرحمن منيف، كاتباً مفكّراً، داعية الى التطوير، مطالباً بإطلاق الحريات في مناخات من الديمقراطية الحقة... كيف للرواية ان تختزن هذا الكمّ من القدرة على التغيير الراديكالي؟صحيح، إخترت موضوعات أساسية كمفاصل ونقاط اختراق ترتبط بالتغيير المطلوب. لا بد من قراءة هذا الوضع العربي المخيف وطرح البدائل ووسائل التغيير. لقد حدّدت قضايا أساسية: الديمقراطية، السجن السياسي، النفط، زعزعة اليقين، الركود... التغيير مستحيل بلا ديمقراطية وفي ظل تغييب العقل العالمي وضرورة الحوار المتبادل بين السلطة والشعب. اخترت موضوعات يمكن أن تشكل بداية لزعزعة اليقين الموجود، وصولاً الى حوار ايجابي يشق طريقاً الى المستقبل. التغيير في اتجاه الديمقراطية يستلزم مناخات فكرية منفتحة ومؤسسات تحكمها قوانين عصرية وعقول مستنيرة. كلها أمور تكاد تكون معدومة! هل التغيير ممكن بالوسائل العادية او بالحلم والرجاء والأمل؟لا شك في أن الديمقراطية مسار طويل ومكلف وصعب. دفع الغرب الكثير قبل الوصول. اليأس ممنوع. نحن الآن في محاولة كسر قشرة قديمة متكلسة. سيكون المسار بطيئاً ومرهقاً ولا أتصور حصول استجابات سريعة، لكن الاستمرار لا بدّ من ان يؤدي الى نتائج. هناك كمّ كبير من التحديات لا يمكن مواجهتها بالهرب والسكوت.الشرق الاوسط والمنطقة العربية في حال غليان. أفكار ومشاريع، مفاوضات وإعلان نوايا حول صلح مع اسرائيل وتطبيع مشروط وشروط مضادة. أي أفق لهذا الصراع - التحدي المزمن، ولصراع المئة عام المتوقع؟ أي مستقبل تستشفّ؟التحدي قائم منذ بداية القرن ولا يزال. الصيغ المطروحة الآن تمليها موازين القوى ومساهمات الشعوب! مهما كانت التسويات المحتملة فهي هدنة طويلة او قصيرة تبعاً للعوامل التي تفرضها. عشت النكبة وتداعياتها. هناك كمّ من العوامل والقضايا إذا لم تحل ضمن القناعات المشتركة لن تحل إلاّ عن طريق القوة! الهيمنة والفرض واستغلال لحظة التفكك والوهن العربي من قبل اسرائيل. كل ذلك يخلق هدنة – كما ذكرت – لكنها قلقة ومعرّضة للانهيار في اي وقت. الظلم وإن طال أمده حال استثنائية.نشعر بأن فسحة الحرية في هذا العالم العربي «غير فضفاضة». في كتاباتك تجسّد توثّباً نحو الحرية قد لا يعجب النظام العربي عامة. كيف تتدبر أمرك للاقامة في ربوع «المدن الديمقراطية» والكتابة؟أنا مثل الآخرين أعاني غياب الحرية او محدوديتها. عندما يضيق بي «مكان عربي» أنتقل الى آخر. لديّ هواجس وهموم وأحلام، أحاول التعبير عنها قدر ما أستطيع. ثم إن لحمي صار من القساوة بما يسمح لي بالدفاع عن نفسي. أنا لا أزعم ان هامش الحرية فسيح. طبعاً كلا. عالمنا اصبح صغيراً، شديد التداخل والتفاعل، لكن علينا ان نرفع دوماً وعالياً وقوياً صوت الحرية. القوة تستطيع ان تفرض «منطقها» لكن بصورة موقتة.تكلمت عن الهواجس والأحلام. ألا تعتقد انه على قدر أحلامنا تكون الهواجس، او كأن الحلم هاجس إيجابي والعكس صحيح؟!ّهناك فرق كبير بين أحلام الاطفال والراغبين في التغيير من ناحية، والهموم الكبيرة الثقيلة من ناحية ثانية. مع مرور الايام والتقدم في العمر تتلاشى احلامنا ونصبح أكثر واقعية. تصير الأحلام قابلة للتحقيق عندما تصغر الى حدّ ما. الحياة من دون حلم شيء مملّ، سقيم، عبثي!أي ملاذ تشكله لك الكتابة الروائية في رحاب هذا «الفردوس» العربي؟كتابة الرواية ملاذ حقيقي ولعله الوحيد المتبقي. العمل الروائي مسألة بحث والموضوع تبرير للحفر في الذاكرة واستيلاد اسئلة جديدة. هاجسي هو الحوار مع الآخر أما عملية السرد والقص فتنشأ لمواجهة الخوف!ممَّ الخوف؟الخوف من ان تتحول الحياة الى مجرد رحلة سخيفة فارغة. والخوف الآخر أن يظل انساننا العربي متخلفاً منتهك الكرامة والحقوق البديهية في أبسط شروط الحياة الانسانية وسط هذا السجن الكبير.ورد في كتابك «شرق المتوسط» عن ضرورة كتابة رواية تختلف عن السائد وبأساليب تحمل الجدّة والاختلاف وبصوغ شكلي متعدد. بالعودة الى انتاجك حتى الآن (1999) كيف تدلل على هذا التجديد؟في «النهايات» القصة القصيرة مدماك في هيكلية الرواية ككل. في «حين تركنا الجسر» استعملت الحيوان وسيلة للتعبير وإيصال الأفكار. في «عالم بلا خرائط» تشاركت في الكتابة مع صديقي الروائي جبرا ابراهيم جبرا، في خماسية «مدن الملح» تتناوب على ادوار البطولة جموع كثيرة وشخوص. في ثلاثيتي الاخيرة «أرض السواد» العراق هو البطل الاساسي والوحيد.هذا على مستوى التركيب والصهر الروائي. ماذا عن اللغة والصوغ والمفردات؟«قصة حب مجوسية» اعتبرها قصيدة واحدة مستدامة. في «مدن الملح» تعمدت استعمال لغة صحراوية متقشفة تحمل أمثالاً وأغاني شعبية كانت رائجة في تلك المرحلة، كما استعملت في كثير من المقاطع اللهجة العامية لما فيها من دلالات. أما في «أرض السواد» فحاولت تحميل حوارات الناس أبعاد الرواية وإشاراتها المباشرة. أحمّل نفسي همّ تحديث الرواية العربية وأترك التقويم النهائي للدراسات المعمّقة ولتاريخ الأدب العربي.ما أحلامك اليوم؟أتمنى مزيداً من الحرية للناس ومزيداً من الوعي للحاكم. ثمة كمّ كبير من التضييق على الحريات وفوارق شاسعة بين الاغنياء والفقراء. مطلوب نوع من التكيّف المتبادل، أن يصير الحاكم اكثر واقعية ليفهم هموم الناس وأن يتحلى المواطنون بجرأة اكبر في المطالبة بحقوقهم وأن تتجسد بصيغ عملية. أرى ان الشعوب مقصّرة في هذا المضمار.هذا يحمّلك مسؤولية ما كروائي حيال الناس؟ حتماً. مهمة الرواية وكل الوسائل الفنية والادبية خلق مزيد من الوعي في المجتمعات تحقيقاً للعدالة والحريات الفردية والجماعية، قبل نشوء الاحزاب والحاجة الى تداول السلطة والتمثيل الشعبي وإطلاق حريات وسائل الاعلام وإلغاء الرقابات وقوانين الطوارئ.يتجه العالم الى فرز الناس فئتين، أقلية موغلّة في الثراء وأكثرية ساحقة تغرق في الفقر وانعدام سبل العيش، فيما تتلاشى الطبقة الوسطى بسرعة. كيف تقرأ المشهد العربي وتداعياته؟لا شك في ان الفقر من اكبر آفات المجتمع اليوم وأكثرها خطورة. هذه المعادلة التي ذكرت هي قنبلة موقوتة يمكن أن تفجّر مجتمعاتنا العربية في أي وقت. أخشى من ثورات الفقراء العمياء التي تتولد نتيجة انعدام رغيف الخبز والحرية. ردود فعل الفقير المضطهد لا أحد يستطيع ان يحسب سلفاً توجهاتها. مطلوب تدارك الأمر في أقصى سرعة وعلى الحكام العرب ان يتصرفوا ببعد نظر لتدارك الأسوأ. ان المنطقة العربية تعيش على برميل بارود. نسأل عن الكرامة للفرد، عن فرص العمل، عن الحدّ من الهجرات، عن الحريات، عن مشاريع التصنيع والزراعة والتدريس وضمان العمل والشيخوخة والطبابة... هذا التجاهل الرسمي او الاستخفاف سيؤدي الى انفجار.ان ما يحصل في المنطقة العربية ارتداد وعودة الى صيغة ما قبل الدولة. وحدها الدولة العادلة العاقلة بنت الديمقراطية تستطيع منع الانهيار، فلنسع اليها قبل فوات الأوان.في «مدن الملح» وسواها من أعمالك تناولت واقع النفط في العالم العربي، هذا الكنز الذي بدا لنا يوماً نعمة كبيرة وطاقة تطويرية هائلة. ومع مرور الوقت تحول الى نقمة وسبّب حروباً ونزاعات اقليمية ودولية وانهيارات خطيرة في تكوين المجتمعات العربية؟ان الثروة النفطية الى نضوب وإذا لم يستعمل ربع الساعة الاخير ستتبخّر هذه الثروة وتعود الحياة الى نمطية الخيمة لكن من دون أهلية التعامل مع ثقافة الخيمة (اذا جاز التعبير). كان الكلأ والماء همّ البدو الاساسي، اصبح الآن كل شيء مستورداً. لقد تكوّن النفط عبر ملايين السنين ليشكل كنزاً تاريخياً يخص الاجيال القادمة ايضاً. جيلنا يكون فاسقاً ومدمّراً ان هو أباد هذه الثروة وبهذه السرعة! ذات مرة قال شاه ايران: «ان النفط مادة نبيلة يجب الاّ تحرق». السؤال الملح اليوم كيف نستغل هذه الثروة للمستقبل؟ لتأسيس صناعات وزراعات وبنى تحتية ومدن للزمن الآتي. النفط بحبوحة موقتة، عرس في ليلة صيف، مطلوب عقول تبني مستقبلاً للانسان العربي.
توابل - ثقافات
الجريدة تنفرد بحوار غير منشور مع الروائي الكبير الغائب عبد الرحمن منيف: نحتاج إلى عقول تبني مستقبلاً للإنسان العربي
29-08-2007