كان السفر إلى فرنسا ومتابعة الدراسة في جامعاتها حلماً يراود طه حسين (1889 ـ 1973) وكان لا يزال طالباً في الأزهر يتابع، على مضض، محاضرات الشيوخ ويعبر عن امتعاضه ممّا يسمعه من أفكار وعلوم ميتة. يقول في مقالة له وردت في كتاب «هذا مذهبي»: «وما أكثر ما سألت نفسي: كيف السبيل لمثلي الى عبور البحر وطلب العلم غريباً في تلك البلاد التي لا أعرف من أمرها شيئاً؟ولم أكن أجد جواباً لهذا السؤال، ولكني كنت أقول دائماً: ومع ذلك فلا بدَّ من عبور البحر وطلب العلم في معاهد الغرب». وكلما كان يعبر عن حلمه بالسفر أمام ذويه وأصحابه، يقابل بالدهشة والاستغراب. كيف يتسنى لهذا الشيخ الأزهري الكفيف، المستعين بغيره، أن يتدبر أمره في بلاد الغرب؟ وكان طه سمع من أحد الشيوخ الذين يتولون التدريس في الأزهر قوله: «ومن ذهب الى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق»! لكن فرنسا لم تكن في نظر طه حسين هذه الزندقة وذاك الكفر، إنما باريس هي مهد العلم والفلسفة والفن والحضارة.وعلى الرغم من جميع الصعوبات، نجح الطالب الأزهري في السفر الى فرنسا مبعوثاً مع زميلين له من قبل الحكومة المصرية في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1914. وعلى متن السفينة التي أقلته من الاسكندرية الى مرسيليا «خرج من جبته وقفطاته الأزهريين ودخل الثياب الافرنجية التي لازمته بعدها» (طه حسين: رحلة الشتاء والصيف، ص 41)، ونزل مع رفيقيه مدينة «مونبيلييه»، جنوب فرنسا، والتحق بجامعتها. وعلى مقاعد الدراسة تعرف الى زميلة فرنسية تدعى «سوزان بريسو» غدت زوجته وفي الوقت نفسه «نظره» الى الحياة وإلى الكتاب.وترسّخت علاقة طه حسين بفرنسا ثقافياً واجتماعياً وارتبط بالصداقة مع عدد من كبار الكتاب والمفكرين الفرنسيين منهم اندريه جيد وبول فاليري الذي كان طه يضمر له الاعجاب الشديد ويستمتع بأحاديثه وشمائله ولوي أراغون وسواهم. واللافت حرصه الصادق على تعريف القارىء العربي بهؤلاء الكتاب وبانتاجهم الأدبي والفكري في مقالاته وفي الكثير من مؤلفاته النقدية. يظهر هذا الاهتمام من طه حسين بالإنتاج الأدبي الفرنسي في ما نطالع في قوائم الكتب المترجمة التي أصدرتها «دار الكاتب المصري» التي كان يشرف عليها، كما يظهر هذا الاهتمام بالأدب الفرنسي والثقافة الغربية جلياً في مجلة «الكاتب المصري» التي كان يترأس تحريرها. تلك المجلة التي صدرت خلال الأعوام 1945 ـ 1948 تميّزت في تاريخ الصحافة العربية بأنها ربما كانت المجلة العربية الأولى التي تصدر على النمط الأوروبي لنواحي الإخراج وترتيب المواد وتحرير الأبواب أو الشهريات، كذلك كتب خصيصاً للمجلة كتاب فرنسيون أعلام من أمثال جان بول سارتر وأندرية مالرو وألبير كامو وسواهم:ليس صعباً أن نتبين في هذا اللون الرفيع من الحوار بين أديبين كبيرين ينتميان الى حضارتين مختلفتين، الصيغة المثلى لما يسمى بحوار الحضارات الذي يكثر عنه الكلام في هذه الأيام. فالكاتب الفرنسي يشير في رسالته الى طه حسين، بصراحة ومن دون أي شعور منه بالحرج، الى أن الدين الإسلامي، بحسب ما عرفه عنه إما بواسطة خلطائه من العرب والمسلمين وإما عن طريق الدراسات الاستشراقية، هو دين «التسليم»، أو دين «الاتِّباع لا الابتداع» على حد قول داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب، وهذا يعني تقيد الإنسان المسلم بما جاء به القرآن والسنة والسلف الصالح تقيداً مطلقاً من دون أيّ زيادة أو نقصان. لذا لا مجال أمام المسلم، في نظر أندريه جيد، لطرح الأسئلة حول المسلمات الدينية الأساسية سعياً الى المزيد من المعرفة والوضوح، ففي الإكثار من اثارة الأسئلة، على هذا الصعيد، ما قد يدلّ على لون من الشك في نفس السائل في شأن تلك المسلمات طالما أن الأجوبة، الأجوبة جميعها، متوافرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة وتفاسير السلف الصالح لكليهما، وبسبب هذا الفهم الناقص لحقيقة الإسلام خلص اندريه جيد الى أن العالم الإسلامي «مدرسة للطمأنينة قلما تغري بالبحث، وهذا، في ما أظن هو الذي يجعل تعليمه محدوداً»، وهذا يعني، في كلام صاحب «الأغذية الأرضية» Les Naurritures Terrestres)) أنه غير متحمس لترجمة مؤلفاته الى لغةٍ أبناؤها «مكتوفو العقول» بتعاليم دينهم... وليس مستبعداً أن يكون أندريه جيد متأثراً، في نظرته الى الدين الإسلامي بما تحدَّر الى الغربيين في العصور الوسطى من أراء مشوهة عن الإسلام والمسلمين، فضلاً عن عقدة الشعور بالتفوق لدى الغربيين الناجم عن اعتقادهم بأن حضارتهم هي الحضارة المثلى واي حضارة أخرى ليست سوى «صدى» أو «اجترار» للحضارة الغربية، على الرغم من الدراسات التي قام بها علماء غربيون في القرن الماضي وأثبتت أن حضارة بلاد ما بين النهرين هي، الى حد ما، أم الحضارات جميعها.استشراقلم تغب هذه العوامل، جميعها، عن بال عميد الأدب العربي في رده على صديقه الفرنسي إذ ينبهه في رسالته الجوابية الى أنه لم يعرف الإسلام من مصادره الأساسية كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية، إنما عرفه ممن خالطهم من المسلمين ومن الدراسات الاستشراقية، لا سيما أن بعض المستشرقين كانوا «مدخولين في أمورهم» على حد قول إبن المقفع، إذ تعمَّد بعضهم الإساءة في دراساته الى العرب والمسلمين ولم يكن بعضهم الآخر بريئاً من عقدة التفوق الحضاري التي أشرنا إليها. ذاك ما كشف عنه إدوار سعيد في كتابه «الاستشراق» وأثار غضب الكثير من المستشرقين الغربيين، وفيهم جاك بيرك المعروف باعتداله وانصافه الحضارة العربية - الإسلامية في محاضراته وأبحاثه. ففي لقاء طويل أجراه معه كاتب هذه السطور سنة 1982 وكان عميداً للكوليج دون، خلفاً للمستشرق الكبير لويس ماسينيون (1883 ـ 1962) الذي عني بالصوفية واهتم بنشر مؤلفات الحلاج وترك مؤلفات مهمة في الشؤون الإسلامية، سألت جاك بيرك خلال اللقاء: «يقال إن لويس ماسينيون، ومن هذا المكتب بالذات، كان يقدم إلى السلطات الفرنسية الاستعمارية المشورة في تعامل تلك السلطات مع البلدان العربية والإسلامية التي كانت، يومذاك، تحت الاحتلال الفرنسي، فهل هذا صحيح؟».قال: «نعم، هذا صحيح، وذاك أمر طبيعي بحكم احاطته بالحضارة العربية - الإسلامية».قلت: «هل يقوم جاك بيرك، حالياً، بالدور نفسه الذي كان يقوم به سلفه ماسينيون مع اختلاف الظروف، طبعاً، واختلاف طبيعة العلاقات بين فرنسا والعالم العربي ـ الإسلامي؟» قال: «إذا سئلنا نجيب، وغالباً ما توجه إلينا الأسئلة على هذا الصعيد، من وزارة الخارجية الفرنسية».وعندما سألت جاك بيرك عن رأيه في ما ضمنه إدوار سعيد كتابه «الاستشراق: الشرق بمنظار الغرب» من انتقادات قاسية للاستشراق الغربي ولجاك بيرك تحديداً، أجاب بيرك بحدة: «إن إدوار سعيد «مستشرق» أكثر مني. إنه نموذج لفئة من المسيحيين العرب الذين يسعون جهدهم لكي يكونوا الصلة الوحيدة بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي».ألمح طه حسين في رسالته الجوابية، بلباقة، إلى دور الاستشراق الغربي، السلبي في نظرة الغرب المسيحي الى الإسلام والمسلمين، في قوله لأندريه جيد: «وهناك حقيقة لم يظهرك عليها العرب ولا المستعربون وهي هذا القلق الديني الذي أثاره الإسلام في القرنين الأول والثاني للهجرة... الخ».هكذا نرى أن طه حسين يجابه الرأي، وإن جمع في الرأي، ويقارع الفكرة وإن شطَّت، بالفكرة، ولا بدّ «لبارقة الحقيقة»، على قول علي، من أن تومض في ذهن القارئ أو السامع وتحول دون انطلاق الغرائز من ظلمة الأعماق فتدمّر وتقتل رداً على استفزاز رخيص الى حد التفاهة، من الآخر.هامشولدى تولّيه الإشراف على «دار الكاتب المصري» سنة 1945، كان أول ما فكر في ترجمته من الكتب الفرنسية مؤلفات صديقه الحميم أندريه جيد (1869 - 1951) فطلب مترجم الدار نزيه الحكيم الى الكاتب الفرنسي حامل جائزة نوبل (1947) الموافقة على ترجمة روايته «الباب ضيق» الى العربية فأرسل جير رسالة الى المترجم نورد أهم ما جاء فيها:«سيدي باريس في 5 تموز 1945»طالما أبنت في كتاباتي السحر الذي شغفني به العالم العربي ونور الإسلام. وأطلت عِشرة كثير من المعنيين بالشؤون العربية والإسلامية. ولكني أفدت كثيراً وتعلمت كثيراً من العالم العربي، لم أكن حتى اليوم أقدر أن أعطي كما أخذت، ومن أجل هذا يدهشني اقتراحكم. ترجمة كتبي الى لغتكم؟... إلى أي قارئ يمكن أن تساق؟ وأيُّ الرغبات يمكن أن تُلبّي؟ ذلك أن واحدة من الخصائص الجوهرية في العالم المسلم، في ما بدا لي، أنه، وهو الإنساني الروحي يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من أسئلة. أمخطئ أنا؟ ربما. ولكني لا أحس كبير قلق في نفوس هؤلاء الذين كوَّنهم القرآن وأدَّبهم. إنه مدرسة للطمأنينة قلما تغري بالبحث، وهذا، في ما أظن هو الذي يجعل تعليمه محدوداً...».وتولى طه حسين، ذاته، الرد على أندريه جيد برسالة طويلة جاء فيها:«سيد باريس في 6 كانون الثاني 1946»لم تخطئ أنت، وانما دُفعت الى الخطأ. خالطت كثيراً من المسلمين، ولكنك لم تخالط الإسلام. فليس على الإسلام بأس مما ألقى في روعك خلطاؤك المسلمون وقد عرفتهم في عصر مؤلم من تاريخهم فلم يكن من اليسير أن يظهروك على حقائق الإسلام. فلو تعمقوا الدين تعمقاً دقيقاً لأظهروك على ما يثير القرآن من مسائل وعلى ما يعرض لها من جواب. وهناك حقيقة لم يظهرك عليها العرب ولا المستعربون، وهي هذا القلق الديني الذي أثاره الإسلام في النفوس أثناء القرنين الأول والثاني للهجرة. هذا القلق الديني الخصب الذي منح الآداب من الحب العذري والطموح إلى المثل العليا ما ليس له في الآداب الأخرى من نظير».
توابل - ثقافات
نموذج من حوار الحضارات بين طه حسين وأندريه جيْد
23-03-2008