ظلت ديموقراطية الكويت تراوح بين مد وجزر، فحينا خطوة للأمام وحينا آخر عشر خطوات للوراء حتى كادت أن تصبح هجينا ديموقراطيا أو كاد الأمر أن يشتبه علينا، فمن حولنا والحمدلله -الذي لا يحمد على مكروه سواه- الكثير من أشباه الديموقراطية حتى قلنا «إن البقر تشابه علينا».

Ad

ويعود أحد أبرز أسباب اختلال ديموقراطيتنا الى عدم استقرارها وتقطعها واستمرار العبث بها، وبالتالي حرامانها من تأسيس بنية ثقافية ديموقراطية وهي أساس لامناص منه في التكوين الديموقراطي، فالديموقراطية على أي حال ليست صناديق انتخابات، بل أشمل وأوسع من ذلك بكثير.

وفي سبيل محاولتنا لفهم الخلل وحالة «الكساح السياسي» التي نمر بها وجدنا من المفيد استعراض بعض تجارب العبث تلك، ولماذا فشلت في التخلص نهائيا من البنيان الديموقراطي. وتتمثل حادثة تزوير ثاني انتخابات نيابية في الكويت بأنها كانت بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير السياسي فزرعت الاحباط وعززت الانسحاب وألغت الثقة والمصداقية بين الحاكم والمحكوم.

ففي 25 يناير 1967 اكتشف الكويتيون انهم قد خُدعوا، وأن مسعاهم الى تأسيس نظام ديموقراطي لم يكن إلا سرابا بقيعة أو في أحسن الأحوال رمادا تذروه الرياح.

لا يبدو أن الطريق الى تزوير الانتخابات كان سهلا، كما لم يبد من كل المؤشرات والمعلومات المتواترة أنه كان قرارا مع سبق الاصرار والترصد، بل لعله قد اتخذ على عجل، ولم يكن على الاطلاق قرارا مدروسا، فظهر للمراقبين بدائيا. حيث جيء على عجل بخبراء تزوير انتخابات من خارج البلاد من دون ترتيب مسبق، فلم يكن من أولئك الخبراء إلا أن تصرفوا بناء على ثقافة التزوير السائد في تلك البلاد التي لم تكن بلادا ديموقراطية ولا هم يحزنون، ففي تلك البلاد يتم التزوير جهارا نهارا ليس لغرض التمويه على الارادة الشعبية ولكنها جزء من الاجراءات الادارية ليس إلا وهي تأتي للتأكيد على «سلامة الورق» فطالما أن «الورق سليم» فكل شيء «تمام يا أفندم». ويبدو أننا في محيط أمتنا المنكوبة مهووسون بتزوير الانتخابات لدرجة أن يعتبر نفسه خاسرا من يحصل على أقل من 90% من الأصوات.

ومنذ منتصف 1966 اتضح أن هناك رأيا عاما آخذا في التشكل والتكون، فبعد رحيل زين الرجال الشيخ عبدالله السالم بدأ تحالف سياسي في التكوين من عناصر «الغرفة» والتجار مع التيار القومي ومحيطه الواسع، وربما كان ذلك كرد فعل لبروز اتجاه في السلطة يسعى الى تصفية الديموقراطية ككل.

وقد كان ملحوظا ان هامش الحراك السياسي مازال قائما، فما ان نادى المنادي بالانتخابات حتى تكرست تلك الارهاصات على شكل تحالف انتخابي واسع بدا أنه سيكتسح تلك الانتخابات، وكان عنوان ذلك التحالف هو قائمة موحدة أطلق عليها اسم «نواب الشعب».

تم التزوير المباشر العلني في بعض الدوائر الانتخابية فقط، وكان التزوير قد استهدف مرشحين بعينهم، كما سعى القائمون على التزوير الى أن يسمحوا بنجاح عدد من قائمة «نواب الشعب» وبالذات المحسوبون على التجار منهم، فبهدف احداث ارتباك لديهم ولكن ذلك لم يمنع من استمرار التضامن الشعبي ضد التزوير، حيث وقع 38 مرشحا على بيان يندد بالتزوير وكان من ضمنهم 8 ممن فازوا بالانتخابات.

لن ندخل في تفاصيل وأحاديث التزوير فهي موثقة في أماكن ومراجع عدة، ولكن لاشك أنها قد احدثت «ردة» وبترت ذراع الديموقراطية، ونتج عنها وجود احباط وانسحاب من شرائح شعبية فاعلة كانت قد أخذت التجربة الديموقراطية على محمل الجد. ومع أن التزوير المباشر لم يتكرر مرة اخرى إلا أن الأثر المدمر كان أكبر من ان تتحمله مسيرة الديموقراطية.

قام احد كبار المؤرخين في جامعة اكسفور بدراسة تاريخية ظريفة ومبدعة حاول فيها ان يقرأ التاريخ بصورة مغايرة بطرح سؤال «ماذا لو لم يحدث كذا...؟» فكيف كانت ستتأتى الاحداث، اي، وعلى سبيل المثال، ماذا لو أن صدام حسين كان قد أصيب في رأسه ومات بدلا من إصابته في رحلة عام 1959 إبان محاولة البعثيين اغتيال عبدالكريم قاسم، فكيف كانت ستكون مجريات الأحداث في العراق؟ سؤال بالتأكيد لا إجابة يقينية له، فالله سبحانه وتعالى شاء ان يعيش صدام حسين وأن تحدث المآسي على يديه ويموت بالطريقة التي مات فيها، ولكن لابأس من ذلك على سبيل التمرين الذهني.

ونقول هنا وبنفس السياق، ماذا لو لم يحدث التزوير لدينا وتركت العملية السياسية تأخذ مجراها الطبيعي وفاز نواب الشعب بأغلبية مقاعد مجلس الأمة عام 1967، فهل كان ذلك سيمثل نواة وخميرة لتأسيس حراك سياسي مؤسسي وربما انطلاقة القاعدة وثقافة ديموقراطية حقيقية؟ من يدري.

مانعرفه هنا هو أن تزوير الانتخابات كان معول هدم في بناء الوطن الديموقراطي وتجاوز ضرره المنفعة الوقتية التي أرادها القائمون عليها، وكانت بداية طريق طويل من التراجع والتردي.