إن سرعة تحرك «حزب الشعب» وإصراره على عدم تفويت الفرصة، تحت فضاء الحزن والورود والدم في الشارع الباكستاني، بتعيين نجل بينظير الشاب رئيساً للحزب كخطوة رمزية ومعنوية تستهدف وحدة الحزب والالتفاف الشعبي، وتؤكد احترام الحزب لظاهرة الإرث العائلي وتاريخها النضالي، مما سيجعل مشرّف ومجموعته الحاكمة يعيدان النظر في توقيت الانتخابات.

Ad

ودعتنا بينظير بوتو بطريقة تراجيدية، وكأنها تختتم عام 2007 بمعزوفة وسيمفونية بتهوفن الثالثة «البطولة» كامرأة شجاعة، فقد كان متبقياً بينها وبين انتهاء العام أربعة أيام، غير أن راولبندي لم ترض إلا أن تستقبلها بالموت العصي على الفهم، بذلك الاغتيال المروع الغامض في لعبته العسكرية والأمنية والسياسية والانتحارية. كان على مدينة راولبندي أن تستعيد ذكرى مشنقة الإعدام التي نصبت لوالدها قبل ثلاثة عقود، لتصبح المدينة ذاكرة أليمة لمحبيها ولكل تاريخ باكستان ولعائلة «بهتو» –هكذا هو الاسم الصحيح للعائلة– التي رسمت طريقها بين الموت ومقاعد السلطة، وقررت أن تصارع البنت مثل أبيها قفازات الجنرالات الذين ترصدوا لها، وهي تحاول إزاحتهم من مواقع الثراء والرفاهية، في بلد تميز بالفساد الواسع والراسخ إلى درجة نخر فيها قمة الهرم حتى أصغر موظف فيها.

كان على بينظير أن تستعد لملاقاة خصومها بعد العودة من المنفى في مبارزة حاسمة، وأن تحاول في أثناء عودتها الهروب من براثن القناصة والفخاخ المنصوبة لسيارتها ورجالاتها، الذين خبروا معها دسائس وكواليس شبكات الأمن المعقدة في أجهزة بلد تعددت مؤسساته ومراكز القوى والصراع فيه. ورغم تلك المخاطر والمحاذير، ركبت بينظير طائرتها نحو كراتشي وقبلت في شهر أكتوبر أن تمتحن القتلة وتهرب من براثن الموت المحقق، غير أن الموت لا يمنحنا فرصاً كثيرة، خصوصاً إذا ما كان هناك مقاولون مختصون في صنع التوابيت والأكفان، ورجالات يحسنون خطط الاغتيالات واصطياد الطرائد الحية في فضاء راولبندي، المدينة التي اختارت للمرأة الشجاعة خيارات الموت الغامض.

لم تكن بينظير خصماً لقوة واحدة في نسيج باكستان السياسي، فهناك عدة خصوم شرسين، خصم تاريخي يعود إلى زمن ضياء الحق وهم ينتمون إلى المؤسسة العسكرية والأمنية المرتبطة بها، وهناك جناح وتيار من الصقور مرتبط بحكم مشرف لا يسعده صعود بينظير إلى سدة الحكم، وهي التي كثيراً ما صرحت أنهم هم من يستفيدون من كل الصراعات القائمة في باكستان ويلعبون بها وبمصيرها ويعبثون بمناطق القبائل، ويؤسسون لمجتمع الدويلات ويغذون المتصارعين بالخلافات والسلاح، لكي تبقى الثروة والسلطة الحقيقية في أيديهم، مثل هؤلاء كثيراً ما أشارت بينظير إلى ضرورة محاسبتهم وتقديمهم إلى العدالة، وبضرورة تنحيتهم من مراكز القرار والتحكم والسيطرة.

هؤلاء كان عليهم أن يتشبثوا بالجاه والسلطة والامتيازات، قبل أن يدخلوا قفص المحاكمات، والطريق الأمثل لهم هو إزاحة ذلك الصوت القادم من المنفى بكل تحدياته. وهناك مجموعة ثالثة يسعدها إزاحة بينظير من طريقها وهم الجماعات الدينية المتشددة كتنظيم «القاعدة» و«طالبان» وكل الجماعات والمجموعات التي تتوق إلى استعادة قوتها في باكستان وبعدم خروج باكستان من قبضتهم أبدا وتحويلها إلى نموذج حكومة طالبان المنهارة. كل هؤلاء بالضرورة يلتقون معاً في هدفهم المشترك إزاء خصم لدود اسمه بينظير بوتو، التي تحمل في برنامجها السياسي أجندة مختلفة لباكستان كدولة القانون والحريات والديموقراطية، فهي الطريق الحقيقي إلى إنقاذ باكستان من محنتها وأزماتها المستفحلة.

بهذا الاغتيال المتوقع منذ شهر أكتوبر الماضي، ينبثق السؤلان المهمان: من الجهة التي فازت برقبة بينظير قبل الآخرين؟ ولماذا تعبث تلك الأصوات المضللة والمربكة والمشوشة بالإشاعات في الساحة الباكستانية، بهدف إخفاء القاتل الحقيقي في اللعبة الباكستانية الراهنة؟

وإذا ما أخضعنا الاغتيال لواقع التوقيت السياسي، فإن لحظة الصراع هي على مقعد السلطة عبر الانتخابات، ومن يخشون من التحدي والخسارة، عليهم إزالة ذلك الخطر، خصوصاً إذا ما عرفنا أن الشعبية الهائلة لبينظير تشير إلى إمكان فوزها في انتخابات الرئاسة في 8 يناير من العام الجديد 2008، بينما تراجعت فرصة الرئيس مشرف في الشارع الباكستاني، بل يزيده خوفاً أن التيارات الإسلامية المعتدلة كانت تنتظر اللحظة لمفاجأة الرئيس باتخاذ قرار المشاركة والتصويت لمصلحة بينظير.

من اختاروا الاغتيال وتوقيته كان هدفهم بعثرة قوى المعارضة وإرباكها ودفعها إلى قرار المقاطعة، فهذا يتيح لها التفرد بصناديق التصويت، وما فعله الحزبان الكبيران «حزب الشعب وحزب الرابطة الإسلامية» عند جثمان بينظير هو الاتفاق معاً على قرار المشاركة والإصرار بالحفاظ على موعد الانتخابات لشعور الحزبين بأن المزاج العام في الشارع الباكستاني برمته ضد حكومة مشرف والجنرالات، ومن جهة أخرى يتيح لنواز شريف أن يكون الشخصية الأنسب والبديل لبينظير بوتو التي بموتها صنعت تحالفاً مهماً في لحظة انعطاف تاريخي، وبتشكيل تحالف ثنائي قوي فإن القوى الأخرى المعتدلة والتكنوقراط والفئات الشعبية سيدعم بقوة هذا التحالف الجديد.

إن سرعة التحرك «حزب الشعب» وإصراره على عدم تفويت الفرصة، تحت فضاء الحزن والورود والدم في الشارع الباكستاني، بتعيين نجل بينظير الشاب رئيسا للحزب كخطوة رمزية ومعنوية تستهدف وحدة الحزب والالتفاف الشعبي، وتؤكد احترام الحزب لظاهرة الإرث العائلي وتاريخها النضالي، مما سيجعل مشرّف ومجموعته الحاكمة يعيدان النظر بعد هذا التحالف في توقيت الانتخابات، إذ كما يقولون، «الدخول في نهر هائج يغرق القارب»، ومن الأفضل لمشرف أن يمتص الغضب ويفتته ويعيد المزاج العام إلى الهدوء والتراخي، فلعل السياسة تمتص الانفعال والتوترات وتصنع المناورات ظروفاً أفضل للانتخابات، بعد ترتيب الأوراق في الشارع الباكستاني.

* كاتب بحريني