لاتزال تداعيات حرب لبنان 2006، التي مرت ذكراها السنوية الأولى نهاية الأسبوع الماضي، حاضرة بقوة في الخريطة الإقليمية للعالم العربي على مستويين؛ يتمثل أولهما في استحكام ثنائيات المقاومين-المعتدلين الفاصلة بين الفاعلين الأساسيين والمحددة لجوهر أدوارهم الإقليمية، في حين يتأطر الثاني حول استمرارية ضعف مؤسسات الدولة في العديد من البلدان العربية وتراجع قدرتها على إدارة شؤون المجتمع والسياسة، في مقابل تصاعد قوى الأصولية والطائفية والمذهبية بكل ما يحمله ذلك من مخاطر وتحديات.

فقد رتبت حرب لبنان 2006، بما حملته من مواقف إقليمية ودولية متنوعة وبالتواكب مع مأساوية المشهدين العراقي والفلسطيني، التبلور البين لمعسكرين عربيين متناقضين في مقاربتهما السياسية، يرفع أحدهما لواء مقاومة ما يصفه بالمشروع الأميركي-الإسرائيلي للسيطرة على الشرق الأوسط، في حين يبحث الآخر عن حلول تفاوضية لأزمات يراها تعصف بما تبقى للعرب من فرص استقرار وإمكانات فعلية لتنمية مجتمعاتهم. «المقاومون»، الذين ينتظمون في سياقات أصولية تلتبس هويتها أحياناً بمكونات العرق والطائفة والمذهب، يرون في تعثر الولايات المتحدة في العراق ومن بعدها إسرائيل في لبنان وفلسطين فرصة ذهبية لمنازعتهما إقليمياً كمدخل لاستعادة حقوق عربية سلبت. إلا أنهم وبحكم تشككهم المبدئي في شرعية الدولة العربية عاجزون استراتيجياً عن صياغة نموذج متكامل للفعل واستجلاء مفرداته بموضوعية تبحث في حدود الاتفاق والاختلاف في المصالح بين العرب وتدرك مضامين الواقعية لإدارة العلاقة مع فاعلين خارجيين لهم في عالمنا مصالح حيوية من المستحيل تجاهلها.

Ad

أما «المعتدلون» الدائرون في فلك القطبين العربيين السعودية ومصر فيراوحون في المساحة الرمادية الواقعة ما بين التسليم بالهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط كقدر لا فكاك منه وبين السعي الحثيث الى الحد من التأثيرات السلبية لانحياز الولايات المتحدة لإسرائيل أو ضد المصالح العربية عن طريق التوظيف التفاوضي التوافقي لأوراق استراتيجية مختلفة. المأزق هنا هو أن ممارسات إدارة بوش خلال السنوات الماضية أتت على مساحات فعل المعتدلين فلم تترك منها سوى الهامشي غير المؤثر، بل وأضعف رفضها استثمار وزن القوة العظمى للضغط بهدف الوصول إلى تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي وحصاد مغامرتها العراقية كثيراً، من دور ومصداقية عرب الخيارات السلمية.

يخطئ المقاومون ومحيطهم الديني المؤيد حينما يُسوّقون بشمولية مخيفة لرؤية للسياسة الإقليمية تشرعن لمنطق المواجهة فقط، بينما فات حكومات الاعتدال بدايةً صياغة قبول داخلي لأولوية حلول الوسط التفاوضية ثم التعاطي الإيجابي والجريء مع واقع إقليمي متغير صار دور «الحليف الأميركي» في سياقه أعمق تهديداً للمصالح العربية من أي لحظة مضت. والحصيلة هي مجتمعات تتنازعها ثنائيات حدية تعجز بسببها عن تحديد مضامين توافقية لمصالحها القومية ولقواسمها المشتركة وتطفو على سطحها ثقافة سياسية رديئة مابرحت تعتمد لغة التخوين والإقصاء وتبرر تصفية الخصم السياسي. وفي الحالات جميعاً يتراجع العرب، وبصورة غير مسبوقة، إلى وضعية المفعول به وتتغول في عالمهم قوى دولية (الولايات المتحدة) وإقليمية (إسرائيل وإيران) اعتادت الهيمنة أو شرعت في التأهب لممارستها.

أما المستوى الثاني، الحاضرة في ثناياه ومنحنياته تداعيات حرب العام الماضي فتدلل على خطورته واحتمالية تهديده لأسس الاجتماع المدني العربي التطورات العراقية واللبنانية والفلسطينية المتلاحقة. ضعف مؤسسات الدولة وغياب حكم القانون وعدم استقرار قواعد عادلة للعملية السياسية هي المحصلة التجريدية لما يحدث في البلدان الثلاثة التي يتعين علينا جميعاً التدبر في مضامينها وإعمال روح النقد الذاتي للوقوف على المسببات وسبل العلاج.

أخفقت مجتمعاتنا العربية في بلورة وتأطير قيم مواطنة مدنية تروم الإدارة الديموقراطية للتعدد بصورة تحول دون ديكتاتورية الأغلبية أو تسلط الأقلية على حد سواء وتدفع باتجاه «أنسنة» المجال العام بتخطي حواجز الدين والعرق والطائفة والمذهب. أخفقنا نعم، والنتيجة هي غياب عقد اجتماعي طوعي ينظم العلاقة بين الدول والمواطنين على نحو يحمي حقوق الإنسان ويضمن قدرا أدنى من شروط العيش الكريم، والأخير لا يقتصر فقط على المقومات الاقتصادية والاجتماعية لحياة الفرد.

ينبغي التسليم بواقعية بأن تفجر الأوضاع في العراق وما يحدث اليوم في لبنان وفلسطين، وعلى الرغم من الحضور البين لدور ومسؤولية الفاعلين الخارجيين، مرشح للتكرار في بلدان أخرى بقوة الدفع الذاتي ومن دون تدخل الخارج. الحل الوحيد هو أن يتم التخلي عن النمط الإقصائي في التعامل مع التعدد والتنوع والاعتماد التدريجي لمنطق دمجي ذي جوهر ديموقراطي يضمن مساواة المواطنين ومشاركتهم العادلة في الشأن العام دونما استئثار أو إلغاء ودونما تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو المذهب. فهل ينصت المقاومون والمعتدلون؟ 

كبير باحثين في مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي– واشنطن