إذا تمكن مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي حقاً من حل مشكلة الطاقة على كوكب الأرض، فإن عشرة مليارات يورو سوف تشكل استثماراً ضئيلاً أقل من صافي أرباح شركة «توتال» للنفط (13 مليار يورور في العام 2006)، ومساوٍ لتكاليف عشرة أيام من الحرب في العراق.

Ad

تبذل فرنسا الآن جهوداً حثيثة لإنشاء مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER)، الذي من المفترض أن يثبت إمكان استخدام الاندماج النووي في تشغيل محطات الطاقة النووية. كثيرا ما يـقدم هذا النوع من المفاعلات، باعتباره الحل بعيد الأمد لمشكلة الاحتباس الحراري العالمي، وذلك لأن الاندماج الحراري سوف يشكل مصدراً نظيفاً وغير محدود للطاقة. إلا أن الحقيقة غير ذلك.

في التفاعلات الانشطارية، التي يعتمد عليها توليد الطاقة النووية اليوم، تتكسر العناصر الثقيلة مثل اليورانيوم إلى عناصر أصغر، بينما في الاندماج النووي تلتحم العناصر الصغيرة، مثل الهيدروجين لكي تشكل عناصر أثقل (مثل الهيليوم)، وينتج عن كل من الانشطار والاندماج كمية هائلة من الطاقة.

ويشرح لنا بعض الزعماء السياسيين كيف أن الاندماج النووي يحدث في الشمس، وكيف سيصبح بوسعنا تسخير طاقته بفضل المفاعل النووي التجريبي. وكثيراً ما يضيفون إلى ذلك أنه ما دام الاندماج يحرق الهيدروجين، الذي يمكن استخراجه من ماء البحر، فهو بهذا يشكل مصدراً غير محدود للطاقة.

من المؤسف أن الزعماء السياسيين يعرفون القليل عن الجوانب العلمية، التي يشتمل عليها هذا الأمر. فمن المعروف منذ اختراع القنبلة الهيدروجينية أن الاندماج النووي يشكل مصدراً للطاقة. لكن السيطرة على هذا النوع من الطاقة ما زالت تشكل تحدياً جوهرياً للمعاهد البحثية، وليست مجرد صعوبة فنية بسيطة يمكن التغلب عليها بسهولة.

إن احتواء شمس صغيرة داخل صندوق، يشكل مهمة بالغة التعقيد والصعوبة، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية؛ أولها، أن الوقود النووي ليس ماء البحر، بل هو مزيج من نظيرين مشعين ثقيلين من نظائر الهيدروجين، الديوتيريوم والتريتيوم، والأخير عنصر مشع أنتج بكميات صغيرة لاستخدامه في القنبلة الهيدروجينية. وأي تطوير لمفاعلات الاندماج سوف يتطلب إنتاج التريتيوم بطرق صناعية ما زال علينا ابتكارها.

السبب الثاني، أن التفاعل الناتج عن اندماج «الديوتيريوم» و«التريتيوم» يبدأ عند نحو مئة مليون درجة. وبلوغ مثل درجة الحرارة هذه يتطلب استخدام مغناطيس لتسريع البلازما (الغاز المؤين)، الذي هو عبارة عن لهب ضخم مؤلف من نوى الديوتيريوم والتريتيوم. ولابد وأن تتم هذه العملية في مجال مفرغ وخاوٍ بصورة تامة وفي غرفة ضخمة. فضلاً عن ذلك فإن المفاعل التجريبي ليس مصمماً لإنتاج الطاقة الكهربية، بل لدراسة درجة استقرار اللهب في المغناطيس. وبم أن تفاعل الاندماج ينتج جسيمات «ألفا»، التي تلوث البلازما، فلابد من إيلاج «محول» داخل اللهب، الذي تبلغ حرارته مئة مليون درجة من أجل تنظيفه. وحتى الآن لم يتمكن أي إنسان من إنجاز هذه العملية، وقد يتسنى للمفاعل التجريبي أن يحاول هذا بحلول العام 2030 هذا على فرض تمكن العلماء من حل المشكلة السابقة.

السبب الثالث، أن الاندماج يقذف أيضاً بنيوترونات تؤدي إلى تكوين فقاقيع من غاز الهيليوم داخل المادة الجدارية، التي تميل إلى الانفجار. ويزعم مؤيدو مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي أن هذه الفقاقيع سوف تتمكن من الإفلات إذا ما كانت الجدران نفّاذة. إلا أننا لا نستطيع أن نصنع مادة مانعة للتسرب ونفّاذة في الوقت ذاته، والمفاعل التجريبي ليس مصمماً لدراسة هذا التضارب. في المستقبل لابد من إدخال «دثار عازل» بين البلازما والجدران، وذلك لهدفين: حماية الجدران الخارجية، وإنتاج التريتيوم من التفاعلات النووية داخل سائل متحرك يحتوي على مادة الليثيوم. وقد تنجح هذه الفكرة،لكن الجدار الأول من «الدثار العازل» لا يكفي أن يكون مانعاً للتسرب ونفّاذاً في ذات الوقت، بل لابد وأن يكون نفاذاً للنيوترونات أيضاً، التي لابد وأن تضرب ذرات الليثيوم خلفه.

إن مشكلة المواد تمثل حقلاً بحثياً قائماً بذاته. ومن أجل دراسة هذه المشكلة تقرر بناء المنشأة الدولية لدراسة إشعاع مواد الاندماج (IFMIF) في اليابان. ولقد زعم بعض العلماء أن الإشعاع النيوتروني في هذه المنشأة لن يكون مماثلاً لنظيره في مفاعلات الاندماج، ولكن من الجدير بالذكر أن تكاليف المنشأة، التي ستبلغ ألف مليون يورو، سوف تكون عُشر تكاليف مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي.

لماذا لا ننتظر إذاً نتائج المنشأة الدولية لدراسة إشعاع مواد الاندماج قبل إنشاء مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي؟ الأمر كله يتوقف على الميزانية. وإذا ما تمكن مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي حقاً من حل مشكلة الطاقة على كوكب الأرض، فإن عشرة مليارات يورو سوف تشكل استثماراً ضئيلاً أقل من صافي أرباح شركة «توتال» للنفط (13 مليار يورور في العام 2006)، ومساوٍ لتكاليف عشرة أيام من الحرب في العراق.

ولكن إذا ما كان النجاح في استخدام الاندماج النووي في محطات توليد الطاقة الصناعية أمراً وارداً، فإن هذا سوف يستغرق عدة عقود. وحتى إذا ما كتب النجاح لمفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي، وإذا ما تمكن العلماء من حل المشاكل المتعلقة بالتريتيوم والمواد الأخرى، فلابد من اختبار كل شيء بحجمه الحقيقي، وآنذاك فقط يصبح من الممكن بناء النموذج الأولي لمفاعل نووي صناعي يعمل بالاندماج النووي الحراري. إن تقليص معدلات انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون يشكل أولوية قصوى، لكن الاندماج النووي ليس من المرجح أن ينتج الطاقة الكافية لتحقيق هذه الغاية قبل القرن الثاني والعشرين.

الحقيقة أن مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي يُـعَـد أداة هائلة للبحوث الأساسية، وعلى هذا فإن تكاليفه التي تقدر بنحو 500 مليون يورو سنوياً لابد وأن تقارن بمشاريع علمية مشابهة، مثل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN)، والتي تتكلف نحو ألف مليون فرنك سويسري سنوياً. وفي اعتقادي أن البحث في البنية الأساسية للجزيئات يشكل أهمية أعظم كثيراً من أهمية دراسة استقرار البلازما.

في فرنسا تتجاوز المساهمة في إنشاء مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي الدولي كل الأرصدة المتاحة للمشاريع البحثية في جميع المختبرات الفيزيائية. أي ان الخطر هنا يتمثل في أن يؤدي مشروع المفاعل التجريبي إلى استنزاف الأرصدة اللازمة لمشاريع بحثية حيوية أخرى. وما زلنا نتذكر تلك التجربة السيئة بالفعل، وهي المحطة الفضائية الدولية، التي أهدرنا في بنائها مئة ألف مليون دولار أميركي ولم تقدنا إلى أي نتائج علمية.

إن مفاعل الاندماج النووي التجريبي لن يحل مشكلة الطاقة. وعلى الرغم من اهتمام هذا المشروع بالخواص الفيزيائية للبلازما،لكن الدول المشاركة في الشروع لابد وأن تقرر بكل وضوح أن تمويل هذا المشروع لن يؤثر على الجهود البحثية الأخرى في تلك الدول. وفي الوقت نفسه يتعين على المجتمع الدولي أن يدعم الأبحاث في مجال ادخار وتخزين الطاقة، وأن يحرص على التعجيل بتنمية الجيل الرابع من المفاعلات النووية، التي ستستخدم الانشطار النووي في منشآت نظيفة وآمنة وذات قدرة عالية على التحمل والبقاء.

 

مدير الأبحاث بالمركز الوطني للبحوث العلمية بفرنسا (CNRS)، وأستاذ علوم الفيزياء بالمعهد العالي في باريس

خاص بـ«الجريدة» - «بروجيكت سنديكيت»