أضحت كلمة «فساد» من أكثر الكلمات الدارجة في الساحة المحلية في الكويت، لكن نادراً ما نشهد موظفاً عادياً يكشف عن حالة فساد أو كما يقول الكويتيون «يبط البرمة» ابتغاء للمصلحة العامة لتأخذ مجراها القانوني، من دون تبنيها سياسياً من قبل البرلمان، بسبب وجود قصور قانوني في تشجيع وحماية الموظف من أي إجراءات انتقامية، وهو ما يؤدي إلى تفضيل الموظف السكوت بعيداً عن «القيل والقال» في التحقيق أو في الرأي العام. عند كشف مجرم أو سارق في بريطانيا في السابق، كان الشرطي أو حارس السوق ينفخ في صافرته لتنبيه زملائه وعامة الناس، في ما درج على تسميته whistleblower أو مطلق الصافرة في اللغة القانونية الإنكليزية، والوصف نفسه يطلق أيضا على الموظف الذي يكشف عن جريمة أو حالة فساد تحدث في جهة عمله، سواء كانت مؤسسة حكومية أو خاصة. وليس ضرورياً أن يكون الموظف متضرراً، كما هي الحال في الشكوى ضد موظف آخر أو مسؤول او مؤسسة، حتى يعتبر مطلق صافرة.وتخضع حالات كشف الفساد لعوامل عدة، أحياناً يكون المبلَّــغ عنه موظفاً يقوم بعمل مخالف للوائح المؤسسة لمنفعة مؤسسة أخرى منافسة، أو مسؤولاً يستغل سلطته لمنفعة شخصية، وأحياناً يكون المبلغ عنه المؤسسة بكاملها عندما تخالف قوانين الدولة. وتختلف دوافع كشف الفساد التي قد تكون صحوة الضمير أو المصلحة العامة أو المكافأة أو الانتقام أو الخصومة الشخصية والسياسية، وفي بعض الأحيان تكون الشهرة هي الدافع. وتختلف أيضاً وجهة كشف الفساد من حالة الى أخرى، إلا أنها دائماً تكون موجهة الى من له سلطة اتخاذ القرار، فيكشف الموظف الفساد لمسؤوله أو للقيادة العليا داخل المؤسسة، وفي بعض الحالات يكشف الفساد لمؤسسات خارجية كوسائل الاعلام والصحافة أو الجهات الرقابية كالأجهزة الحكومية أو البرلمان.حماية قانونيةلضمان صدق البلاغ وحفظ حقوق الموظف، يتطلب وجود قوانين لتشجيعه على فضح الفساد في مؤسسته، وحمايته من أي إجراءات انتقامية قد تتخذ ضده، إذ تتضمن بعض القوانين في الدول المتقدمة مكافأة مادية للموظف، إضافة إلى توفير الحماية القانونية اللازمة له ضد أي إجراء، سواء كان مجرد توبيخ أو حتى الفصل من العمل. وأحياناً لا يملك الموظف خيار السكوت في حال طلبت المحكمة أو لجان التحقيق منه الإدلاء بشهادته، مما يتطلب منطقياً توفير الحماية اللازمة له. ومن جانب آخر، عادة ما يصاحب تلك القوانين تشريعات أخرى تحمي المؤسسات من الابتزاز والدعاوى الكيدية أو البلاغات الكاذبة.يواجه مشرعو قوانين الحماية معضلة التصنيف الدقيق لمطلقي الصافرة، وتكمن الصعوبة في الموازنة بين تشجيع الموظف على كشف فساد مؤسسته من جهة، وبين عدم الإفراط في توفير الحماية للباحثين عن الشهرة والمال، لاسيما أن بعض القوانين تنطوي على حوافز مادية، أو أصحاب الخصومات الشخصية والسياسية من جهة أخرى. كما أن من الصعب تقنين النوايا والدوافع طالما كانت الأدلة متوافرة، والقضية تمثل مخالفة صريحة ومعالجتها تحقق المصلحة العامة، وعلى سبيل المثال عندما فضحت نائبة رئيس شركة إنرون الأميركية شيرون واتكنز أمام الكونغرس التلاعبات المحاسبية في الشركة أتت شهادتها متأخرة خمسة شهور منذ اكتشافها التلاعبات، بل نصحت رئيس الشركة بتصحيح أخطاء أقرت هي في رسالتها له باستحالة تصحيحها، مما اعتبره مراقبون محاولة للتغطية على التلاعبات في البداية، ولما أيقنت واتكنز أن لا مفر من انكشاف التلاعبات قامت بفضحها، واحتار المراقبون بصحة تصنيفها كمطلقة صافرة. يحرص المشرعون على الموازنة بين تشجيع كشف الفساد في المؤسسات من جهة، ومراعاة السرية المحيطة بقضايا الأمن القومي من جهة، إذ في الولايات المتحدة برزت أصوات تطالب بمعاقبة من يكشف أسراراً عسكرية أو استخباراتية حتى إن كانت مرتبطة بقضايا فساد، خصوصاً بعد كشف جريدة النيويورك تايمز وجود سجون أميركية سرية في شرق أوروبا، وكشف الإجراءات الحكومية في التجسس على المكالمات الهاتفية الدولية، الأمر الذي أدخل عنصراً جديداً في النقاش وهو حق الناس في المعرفة وحرية التعبير.جمعيات نفع عام لمطلقي الصافرةفي الدول المتقدمة يتعدى الأمر وجود مطلقي الصافرة إلى وجود جمعيات نفع عام تمثلهم وتوفر لهم الدعم القانوني والمجتمعي، إذ لهم اجتماعاتهم ومؤتمراتهم وبرامجهم، ويكفي البحث عن كلمة whistleblower في الانترنت لمعرفة مدى حضورها. أما في الدول العربية فتوجد بعض الجمعيات المقاربة في الأهداف، وفي الكويت على سبيل المثال هناك الجمعية الكويتية للدفاع عن المال العام، وجمعية الشفافية الكويتية.ويقول أمين عام الجمعية الكويتية للدفاع عن المال العام أنور الرشيد ان «وجود مادة دستورية توجب على كل مواطن حماية المال العام، كفيل بتوفير الأرضية اللازمة للمواطنين لفضح أي حالة فساد تطال المال العام» لكنه رأى «بعض العجز في تفعيلها» وأضاف «لدى كثير من الناس وهم بتعرضهم للانتقام لو قاموا بكشف الفساد» إلا أنه أشار الى «وجود الإحساس بالمسؤولية عند كثير منهم» وضرب مثالاً «باتصال مجموعة من موظفي مؤسسة البترول الكويتية للتبليغ عن تجاوزات مالية في قطاع التدريب» وقال إن «الجمعية بدورها تبنت شكواهم وقامت بمخاطبة الرئيس التنفيذي للمؤسسة سعد الشويب ومازالت بانتظار الرد».استحقاقات دولية على الكويترئيس جمعية الشفافية الكويتية صلاح الغزالي اعتبر أن الكويت بعد توقيعها اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد في مارس 2007 «باتت مجبرة على تشريع قوانين توفر الحماية للموظف الذي يفضح حالات الفساد في جهة عمله، إذ يجب أن يكون هناك ميثاق شرف للموظف العام يحدد مسؤوليته في فضح الفساد، على غرار مواثيق الأطباء والمهندسين وغيرهم» وشدد الغزالي على «أهمية تلك القوانين خاصة في بلد مثل الكويت يتجنب فيه الفرد الشهادة حتى في حادث مروري تجنباً لمتاعب الخوض في التحقيق» وأضاف أن هناك «استحقاقات تقع على الكويت لتنفيذ بنود الاتفاقية، كإنشاء هيئة مكافحة الفساد وتشريع قانون لكشف الذمة المالية» وتمنى أن «يلتفت البرلمان والحكومة الى تلك الاستحقاقات». وأكد الغزالي على «أهمية تشجيع الموظف على كشف الفساد، كما تفعل بعض الدول في قضايا الجمارك بإعطاء الموظف نسبة من قيمة ما يتم ضبطه من ممنوعات أو مخدرات، إذ إن وجود تلك المكافأة تغني الموظف عن التفكير بقبول رشوة مقابل التستر على المخالفة، كما أن هناك قوانين في بعض الدول تبرئ الشريك في أي قضية فساد، إذا أبدى تعاوناً في القضية وأصبح شاهداً فيها، أو تخفف عقوبته على الأقل».ثلاثة عوامل لتحقيق المصلحة العامةيلاحظ في معظم قضايا مطلقي الصافرة التي أدت إلى نتائج حققت المصلحة العامة وجود ثلاثة عوامل مشتركة: الأول هو وجود النية لدى الموظف في الإبلاغ بغض النظر عن الدافع، والثاني هو وجود إعلام حر ومستقل يغطي القضايا بقدر من الشفافية، والثالث وجود غطاء قانوني يحمي الموظف من تعسف وانتقام المبلغ عنه ويضمن حقوقه. ويندر توافر العاملين الأخيرين في دول العالم الثالث، مما يفسر ندرة القضايا المماثلة نتيجة لإيثار الموظف السكوت عن المخالفات وعدم الخوض فيما قد يهدد استقراره المعيشي، وفي الولايات المتحدة الأميركية مثلا، هنالك قوانين تتيح للموظف أن يقاضي جهة عمله في حال مضايقته أو معاقبته أو حرمانه من الترقية أو فصله بسبب فضحه مخالفاتها، ولصعوبة إثبات النوايا الانتقامية بالدليل المادي، ويكفي حسب القانون أن تقتنع هيئة المحلفين أو القاضي بصحة الادعاء بناء على ظروف الدعوى لتعويض الموظف.ورغم ندرة مطلقي الصافرة في العالم العربي، تبقى هناك بعض القضايا المشهورة في التاريخ المعاصر، ولعل أشهرها هو قيام حسين كامل – صهر صدام حسين – بفضح ممارسات النظام العراقي البائد بعد هروبه إلى الأردن منتصف التسعينيات، والقضية الأحدث تتمثل في فضح نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام بعض ممارسات النظام السوري الحاكم بعد انشقاقه عنه في أواخر عام 2005، رغم ما تحمله الحالتان من أبعاد سياسية، وصعوبة تحديد الهدف لأنها تدخل في النوايا، لكن يظل أن إطلاق الصافرة كان ينطوي على حالتي فساد وتعسف حقيقيتين.مطلقو صافرة كويتيونإذا بحثنا عن مطلقي صافرة كويتيين، تبرز قضية الموظف في شركة البترول الوطنية الكويتية خالد الهاجري في عام 2003 عندما قام بفضح قيام الشركة بردم النفايات السامة المضرة بالبيئة، ولاقت قضيته صدى واسعاً في الأوساط السياسية والقانونية الكويتية. وكذلك قضية حديث الرئيس الأسبق لجهاز أمن الدولة الكويتي الشيخ مشعل الجراح لقناة الحرة قبل عامين عن «تقاعس مسؤولي أمن الدولة في ملاحقة عناصر الجماعات الإرهابية في الكويت واتهامه الحكومة الكويتية «بصرف سبعة ملايين دينار كرشاوى لنواب البرلمان لتمرير قانون حق المرأة السياسي».لكن تبقى القضية الكويتية الأشهر والأطول عمراً هي قضية سرقة ناقلات النفط، وقد كان مطلق الصافرة الأول فيها هو رئيس شركة الناقلات عبدالله حمد الرومي، عندما اكتشف وجود فروقات بين أسعار إيجار الناقلات فور تسلمه رئاسة الشركة مطلع التسعينيات، وقام بإيصال المعلومات الى سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد والى مؤسسة البترول الكويتية، أما مطلق الصافرة الثاني فكان المتهم في القضية حسن قبازرد الذي ساهمت اعترافاته في المحكمة بكشف المزيد من خفايا القضية.نتائج القضاياكما تختلف القضايا في مضمونها ودوافعها، تختلف أيضاً النتائج المترتبة عليها، فقضية تلاعبات «إنرون» المحاسبية أدت إلى انهيار أسهم الشركة ومحاكمة مسؤوليها وفقدان موظفي الشركة وظائفهم، كما صنفت الموظفة واتكنز كأحد أهم الأشخاص في العام من قبل مجلة تايمز، وقضية «يورانيوم العراق» أدت إلى تسريب هوية زوجة ويلسون السرية كأحد عناصر المخابرات الأميركية للصحافة من قبل إدارة بوش كإجراء انتقامي كما يفسره بعض المراقبين، وعندما فضح الموظف في إحدى شركات تصنيع التبغ جيفري وايجند «أضرار النيكوتين» أجبر مصنعي التبغ بعدها أن يكونوا أكثر شفافية. بينما في العالم العربي قتل حسين كامل فور عودته الى العراق من الأردن، وتم اتهام عبدالحليم خدام بالخيانة من قبل البرلمان السوري، وفي الكويت، جرى فصل خالد الهاجري من وظيفته في شركة البترول الوطنية، ومشعل الجراح تراجع عن تصريحاته لاعتبارات يعتقد أنها مرتبطة بترسبات أزمة الحكم مطلع عام 2006 في الكويت، أما قضية سرقة الناقلات فمازالت مصدراً للتجاذب السياسي بين الحكومة والبرلمان والكتل السياسية والصحافة، ناهيك عن سجن أحد المتهمين وهرب البقية.يلاحظ في الأنظمة الشمولية قيام الموظف بكشف الفساد بعد هربه من بلده كحسين كامل وعبدالحليم خدام، بينما يتم كشف الفساد في وسائل الاعلام والمؤسسات الدستورية للبلد نفسه في الأنظمة الديموقراطية كأميركا والكويت، ما يبين ارتباط الشفافية وكشف الفساد بوجود الحرية والديموقراطية.تعويض للمواطنلتشجيع الإحساس بالمسؤولية الفردية تجاه المصلحة العامة للمجتمع والدولة، يتيح القانون الأميركي للمواطن أن يفضح أي عملية تزوير أو تلاعب أو اختلاس ضد الدولة، وإذا كسبت النيابة العامة القضية واستعادت الدولة أموالها أو حصلت على تعويضات، يخصص القانون من 15 إلى 30 في المئة منها لمصلحة المواطن المبلغ.
ألبومات
مطلقو الصافرة... عين على الفساد والقانون لايحميهم يفضلون السكوت خوفاً من انتقام مسؤول العمل
28-08-2007