رتب الغياب شبه التام لقوى المعارضة عن ساحات الاحتجاجات الاجتماعية بقاء الأخيرة بمنزلة جُزر منعزلة لا دينامية جماعية تربط بينها، أو تتولد عنها متخطية حدود ذاك المصنع أو تلك المصلحة، لتؤثر بصورة مباشرة في الحياة السياسية. والأمر هنا لا ينبغي اختزاله إلى فعالية الأدوات القمعية لجهاز الدولة التي فرغت الساحة العمالية من الوجود المنظم للمعارضة. على الرغم من أهمية وتنوع الاحتجاجات الاجتماعية التي يمور بها المجتمع المصري، تظل تداعياتها السياسية اليوم وعلى المدى المنظور شديدة المحدودية.فجهاز الدولة، وهو قد أتقن خلال العقود الماضية فن التعايش مع أزمات مجتمعية ومعيشية حادة دونما تنازل عن قبضته السلطوية، مازال يملك في جعبته العديد من استراتيجيات تفتيت المطالب الفئوية المرتبطة بإضرابات واعتصامات العمال والكوادر المهنية المختلفة والحيلولة دون تحولها إلى دينامية سياسية ترى في الإصلاح الديموقراطي نقطة ارتكاز أولى لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وربما تمثل أهم هذه الاستراتيجيات في ثنائية العصا والجزرة التي يجيد جهاز الدولة استخدامها تارة بتوظيف الأدوات القمعية وتارة أخرى بالتعويل على قدرته استيعاب بعض المطالب الفئوية من خلال تنازلات محدودة وفجائية لم تغب عن المشهد المصري في السنوات الماضية وكثيراً ما اقتربت من منطق الرشوة القطاعية. ومع أن عملية الخصخصة المتصاعدة وانسحاب الدولة من السيطرة المباشرة على الاقتصاد فضلاً عن التراجع البين في أداء المؤسسات الحكومية قد وضعوا مجتمعين قيوداً حقيقيةً على مثل هذه الممارسات، إلا أن جهاز الدولة نجح في استثمار التحسن الراهن في معدلات النمو الاقتصادي وتدفق الأموال الخليجية إلى مصر والدمج العضوي لنخبة رجال الأعمال في إدارة الشأن العام لاكتساب مرونة إضافية مكنته من الحفاظ على توازن العصا والجزرة التقليدي ومن إدارة (وليس حل) الأزمات المجتمعية على نحو يحول دون انفجارها (حتى إن اقتضى الأمر استدعاء المؤسسة العسكرية لتنظيم إنتاج الخبز أو شهدت البلاد إضراباً عاماً كما حدث أمس).كذلك رتب الغياب شبه التام لقوى المعارضة عن ساحات الاحتجاجات الاجتماعية بقاء الأخيرة بمنزلة جُزر منعزلة لا دينامية جماعية تربط بينها أو تتولد عنها متخطية حدود ذاك المصنع أو تلك المصلحة لتؤثر بصورة مباشرة في الحياة السياسية. والأمر هنا لا ينبغي اختزاله إلى فعالية الأدوات القمعية لجهاز الدولة التي فرغت الساحة العمالية من الوجود المنظم للمعارضة وسيطرت على آليات العمل النقابي كما تعاطت بمزيج من الاحتواء والقيود القانونية مع تمثيل المعارضين بالنقابات المهنية. فمع الاعتراف بمركزية دور الدولة في تغييب المعارضة، يظل شطر الحقيقة الثاني هو أن قوى المعارضة قد تخلت عن واحدة من وظائفها الرئيسية ألا وهي الانفتاح على مواطن التوترات المجتمعية والسعي إلى بناء قواعد شعبية تستطيع ترجمة الطاقة الاحتجاجية إلى عمل سياسي. لا يقتصر إخفاق المعارضة على التيارات الليبرالية وتلك افتقدت القدرة على الوجود الشعبي منذ أمد بعيد ولأسباب مختلفة، بل يتجاوزها إلى قوى اليسار التي يفضل بعضها التحالف مع جهاز الدولة على العمل الجماهيري في حين مازال بعضها الآخر أسير خطاب شعبوي لا طائل من ورائه وكذلك جماعة الإخوان غير الراغبة في إشعال جبهة إضافية لمواجهتها مع الدولة.يُرد إذن على الدفع بأن تصاعد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية في مصر قد يتسبب على المدى القريب في شل جهاز الدولة أو في انهيار سريع لآليات قبضتها السلطوية العديد من علامات الاستفهام. أما على المدى المتوسط والبعيد، فالصورة قد تختلف وربما أثرت بها اعتبارات وعوامل لاتزال اليوم في طور التشكل. يدلل توالي الاحتجاجات على تغير نوعي مهم طرأ على الثقافة السياسية للمصريين خلال السنوات الماضية قلل جزئياً من حذرهم التقليدي إزاء المطالب الجماعية ومن خوفهم من مواجهة جهاز الدولة وخصم بالتبعية من هيبة الأخير.مثل هذا التغير من شأنه إن استمر (وهو مرشح للاستمرار) وتفاعل مع حيوية مجتمع أغلبية أعضائه من الشباب وساعته البيولوجية فتية أن يعيد تدريجياً صياغة العلاقة بين الدولة والمواطنين على نحو أكثر توازناً وأقل سلطوية. * كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي للسلام - واشنطن
مقالات
قراءة الاحتجاجات الاجتماعية
07-04-2008