أهل النظم الشمولية والتسلّطية و«المختلطة» هم الأكثر استعمالاً لنزعة الاختزال الشره، عملياً ونظرياً. فهم يختزلون الدولة في السلطة، بعد ذلك تُختزل السلطة في نخبة أكثر ضيقاً، وفي النهاية تُختزل الفئة الأخيرة في فرد قائد ملهم.

Ad

ليس في النية أن يجري الحديث هنا عن الاختزال كوسيلة لنسخ الكلام بسرعة ودقة مقبولة، والذي سمّي بما معناه «اليد القصيرة»، ولا عنه في مجال الكيمياء مرتبطاً بمفهوم الأكسدة أيضاً، ولا حتى عن المنهج الذي وضعه هوسرل ليبتعد من خلاله قليلاً عن العالم الواقعي، للنظر فيه كظاهرة للشعور والوعي... بل عن ذلك الاختزال الآخر، في عالم السياسة والفكر السياسي.

فعلى الرغم من السلبية التي نشعر بها حيال الاختزال عموماً، ربّما يكفينا أن نقصرها على ما دعاه دانييل دينيت بالاختزال الشره، ومن أن الرجل كان يتكلم عن داروين حين اشتقّ ذلك المصطلح. فذلك لا يمنع أن نرى من مثل ذلك أن يُقال عن رجل كجمال عبد الناصر أو صدام حسين أو حافظ أسد أنه «رجل في أمة، وأمة في رجل»... وربّما يؤلّف القائل كتاباً في شرح ما يعنيه يوماً، إلاّ أنه حين يتوسّع في شرحه لاختزاله، لن يخرج به البتة من كونه اختزالاً.

في الوقت الذي يمكن التعبير فيه عن نزعة الاختزال بأنها تفسير الشيء بالمصطلحات التي يُقصَر إليها، فإن نزعة الاختزال الشره المذكورة تكون حيث يُفسّر الشيء الذي نحاول أن نفهمه «بعيداً»، بدلاً من تفسيره مباشرةً وفي مكانه المحدد، وهكذا لا نكتسب أي معرفة إضافية حول الشيء المعني. مثال ذلك أن يُقال مثلاً إن أزمة الكهرباء في سورية نتاج الاستعمار والإمبريالية. أو أن سبب غياب الحريات الرئيس هو الاحتلال الإسرائيلي أو السياسة الأميركية، وما إلى ذلك.

حين كنت طالباً جامعياً، وكتبت دراسة أو رسالة لا أذكر مناسبتها تماماً، قال لي رفيقي في «النضال الطلابي» آنذاك؛ من دون أن يتعب نفسه طبعاً بمساعدتي؛ أن أضيف شيئاً حول «الكفاح المسلح»، لأن ذلك يزيد من إثارة النص وثوريّته. وحين يجري الحديث الآن عن أوضاع حقوق الإنسان في البلاد، يبرز من يريد الإشارة إلى الموضوع «بعد» الإشارة الأكثر أولويةً إلى الأوضاع التي تتسبب بها إسرائيل للمواطنين العرب تحت الاحتلال، وكثيراً ما ينسى المسألة الداخلية المقصودة بعد ذلك، بل إن أهل السلطات يتعمّدون ذلك ويستعملونه عمداً من أجل إغلاق الحديث عن أفعالهم. بعضهم يخجل ربّما أن يكتب مقالة أو يُصدر بياناً حول الاستبداد والديموقراطية من دون الحديث عن القضايا القومية «الأكبر».

أهل النظم الشمولية والتسلّطية (والمختلطة) هم الأكثر استعمالاً لنزعة الاختزال الشره، عملياً ونظرياً. فهم يختزلون كل شيء في الدولة، عن طريق النقابات والمنظمات الشعبية والأحزاب الحاكمة الهائلة الحجم، وكلها بالطبع ليست جديرة باسمها إذا انطلقنا من المفاهيم المعاصرة. ثمّ يختزلون الدولة في السلطة، عن طريق تحكّم شبكة من الأجهزة الخاصة والحزبية ومن أصحاب الحظوات، فلا يبقى من الدولة إلاّ خيوط واهية مرهقة مهمتها الحفاظ على الشكل. بعد ذلك تُختزل السلطة في نخبة أكثر ضيقاً، أو لعلها تكون مجرّد طغمة. وفي النهاية تُختزل الفئة الأخيرة في فرد قائد ملهم.

لهذا الأخير عُمّاله في الحقول النظرية والفكرية والإعلامية، الأكثر شراهة في الاختزال من سادتهم. فهم يُكرّسون عبادة «الخارج» القادر الوحيد على حماية سلطتهم أو زعزعتها في ظلّ الأوضاع الشمولية التسلّطية التي يؤمنون بنجاعتها وقدرتها الكلية. ويفسّرون ذلك للعامة دائماً بأن سبب العلل والأوصاب هناك في «الخارج». قيمة الرمي إلى – وعلى – الخارج هنا هي في الابتعاد عن تحمّل النظام المعني أي مسؤولية. لذلك يكون نظيراً لذلك الخارج أن تُرمى المسؤولية على الناس –الشعب, المجتمع- الجهلة والكسالى ضعاف النفوس والمسؤولين عن تراجع مستوى الأخلاق لأنهم لا يبدؤون بتربية أنفسهم وأولادهم في البيت حتى يصبح المجتمع بخير حين يكبر هؤلاء الأولاد، ويكون الحاكم نفسه بانتظارهم على كرسيه الأبدي. في ذلك المستقبل البعيد الغائم، يمكن القضاء جذريّاً على الفساد المستشري... الآن.

بطريقة أخرى يعبّر سي.إس. لويس عن الأمر بصيغة لا أستطيع ترجمتها إلاّ بأنّه « الليس- إلاّئيّة»، وهذه نسبة للقول «ليس إلاّ...». وهو يضرب مثلاً عن ذلك بشخص يختزل لوحة الموناليزا بأنّّها «ليست إلاّ لطخات من الألوان»، ونضرب نحن مثلاً آخر نسمعه : فالشعب « ليس إلاً أفراداً من الرعية، تبايع وتسمع وتطيع»، وعن الأمة أنها «ليست إلاً روحاً مقدّسة لاتُدرك»، وعن الأخلاق أنها «ليس إلاّ مجموعة من التصرّفات التي لاتُخالف المألوف»، وعن الإنسان الفرد المواطن المفترض إنه «ليس إلاّ كائن عضوي يأكل ويشرب ويعمل وينام»... وغير ذلك.

هذا اختزال للخاصّ في العامّ، إذا دخلنا قليلاً في عالم الفلسفة. والخاصّ هو الأكثر غنى وحياة وتعقيداً، بل إن العامّ نفسه يضيع في متاهات طيّارة ومهوّمة حين يكون اختزالاً شرهاً وطمّاعاً بهذا المقدار.

أن يقوم الحكام الذين يتباهون بشرعية يمكن خدشها والشكّ بها أو نفيها إطلاقاٌ، باستعمال مثل هذا الاختزال أمر مفهوم. أن يقوم مثقفون نقديون مفترضون وسياسيون يحملون شرف المعارضة ومخاطرها بذلك، أمر يبعث على الذهول أحياناً.

ربّما لذلك قال إلياس مرقص حين تفتّحت شهيّته للكلام في السنوات الأخيرة من حياته، حين كان يعلم أنه ذاهب باتجاه الموت: إن الاختزال هو الاستبداد.

 

* كاتب سوري