يجمع النقاد ومهتمون كثر على اعتبار شعر نزار قباني من صنف «السهل الممتنع» وتقترن سهولته هذه بجمهوره العريض على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، نعرف ذلك من رواج كتبه في المعارض والمكتبات ومع المراهقات والنساء، ومن قصائده السياسية التي كانت تمنع في بعض البلدان، ومن شعره الغزلي وقصائده المغناة التي سمعناها بصوت عبد الحليم حافظ وماجدة الرومي ونجاة الصغيرة وكاظم الساهر وخالد الشيخ... وعلى هذا كان نزار ظاهرة فريدة في اكثر من اتجاه، له خصوصية سواء في اللغة او المواضيع، او الكلمات غير المألوفة في الشعر والتي ساهم في ترويجها.هل ما زال حاضرا في الذكرى العاشرة لرحيله، وهل يحظى بالوقع نفسه؟ قبل أيام كتب الناقد الاردني فخري صالح «تمر الذكرى العاشرة لرحيل نزار قباني من دون أن نتذكره. شاعر بحجم نزار قباني، وتأثيره الصاخب في الحياة الثقافية، وفي عالم الفن والغناء، وحتى في السياسة والمجتمع، يُنسى بعد موته، ولا يُتذكر في اللحظة العربية الراهنة؛ إنها دلالة على الهاوية التي وصلتها الحياة العربية». لا شك في أن كلام صالح يحمل دلالات كثيرة، فحضور نزار قبل عشرة أعوام يختلف عنه اليوم، نلاحظ ذلك من مبيعات كتبه التي تراجعت ولم تعد تتصدر لائحة الأكثر مبيعا، بل لم تعد متوافرة في واجهات المكتبات، فالنافل أن دواوينه بقيت على مدى عقود الأكثر مبيعاً وخارج المنافسة، وفي المدارس لطالما تهافتت التلميذات على قراءة نزار في أوقات الفراغ وحصص المطالعة، ربما لأنه يعبر عنهن، يعرف ماذا يبغين من كلمات في مجتمعات تغرق بالعادات والتقاليد فتفتّش عن الكلمة العاطفية والوجدانية. نعرف سبب جموح القراء لشراء كتبه، لكن لا نعرف ما الذي تغير اليوم، السؤال: هل وجد الجيل الجديد أموراً أخرى تعبر عن شخصيته في المغنين والمغنيات ونجوم السينما؟ للمتابع ان يلاحظ حماسة قوية من الفنانين لآداء قصيدة لنزار، واذ حظي العراقي كاظم الساهر بالنصيب الأكبر من القصائد وبات كأنه متخصص في اختيار جديده، ثمة من يقول إنه يحتكر نزار، فمما لا شك فيه أن فنانين كثراً يطمحون الى الحصول على قصيدة من دواوينه وابلغ دليل على ذلك القضية التي اثيرت حول قصيدة «حبلى» وتنافس اكثر من مغنية للحصول عليها، وفي هذا إشارة واضحة الى أن نزار لا يزال في أذهان الجمهور وإن بأشكال مختلفة، حتى أن كثيراً من الفتيات اللواتي يحاولن كتابة الشعر للمرة الأولى يستعرن لغته كمرحلة أولى وهن في طريقهن الى صقل لغتهن، ويعتبر أكثر من كاتب قصائد نزار «المذاق الاول» الذي نتجاوزه لكن لا ننساه. الى ذلك يلفت نقاد كثر الى حضور لغته الشعرية في نثر الروائية أحلام مستغانمي، خصوصا في روايتها «ذاكرة الجسد» التي كان لها وقعها الكبير على القراء العرب.أينما صبّ الحديث عن تراجع الاهتمام بشعر نزار راهنا، فله بصمة كبيرة في تاريخ الشعر العربي، يحسده عليها معظم الشعراء او هم ينتقدونه، لكنهم يتمنون ان تكون لهم شهرته وحضوره وجمهوره ولغته، فهو يكتب بلغة يألفها الكبير والصغير، وهو المحطة في مسار معظم هواة الشعر، ولا بد للمرء من أن يقرأ نتاجه قبل أن يغوص في النتاجات الأخرى، فقد غذت قصائده المخيلة العربية طوال ما يزيد على نصف قرن، حتى دخلت في نسيج أحلام الصبايا والشباب في النصف الثاني من القرن العشرين.لا شك في أن بعض النقاد العرب حاول «كسر» حضور نزار في النسيج العام، سواء من خلال «المحاكمات» الأخلاقية او الأدبية او السياسية، لكن شعره تجاوز النقد وأصبح جزءاً من يوميات الناس شأن أدب جبران خليل جبران وصوت السيدة فيروز وغيرهما، وهو إذ كان صوتاً قادراً على حشد عشرات الآلاف من القراء حول قصائده وتقاطر الجمهور إلى حفلات توقيع كتبه في معارض الكتب، نجد اليوم أن صاحب إحدى المكتبات يبيع كتبه القديمة الموقعة بأضعاف مضاعفة، لأنها تحمل توقيعه، وهذا دلالة على أهميته في الذاكرة.كان نزار قباني شاعراً مثيراً للجدل سواء في شعره الغزلي، الذي غرق في التكرار في مجموعاته الأخيرة، او في شعره «الشهرياري» الذي جعله يقول «فصلت من جلد النساء عباءة»، او شعره السياسي الذي كان تعبيراً عن لحظة الصدمة في كتاباته عن عبد الناصر او حرب الخليج او هزيمة 1967 وأحدث سجالا كبيراً، فدعا بعضهم الى منعه والبعض الآخر تبناه، وهو في الأحوال كافة كان يقترب من الغرائزية سواء تحدث عن حرية المرأة او عن شهوانية الرجل العربي او الهوية القومية والقضايا المصرية. ينتقد الحكام، لكنه لم يكن بعيداً عنهم، وظل يكرر منذ قصيدة «هوامش على دفتر النكسة»، التي كتبها بعد هزيمة 1967، قاموسه نفسه سواء في شعره أو في نثره السياسي.واليوم في الذكرى العاشرة لرحيله، نتذكره ويتذكره معنا عدد من الشعراء والفنانين.عباس سالم خدادة: الهمّ القوميأغنى نزار القصيدة العربية، وهو شاعر اكتسب شهرته الواسعة من خلال دواوينه الأولى في الغزل، لأنه تحدث عن تفاصيل علاقته بالمرأة، وهذا أمر لم يفعله شعراء آخرون، لكن من الظلم أن نحصر إبداعه في هذا الجانب، فهو أبدع في قصائده الأخرى ذات الهم القومي والعربي أيضاً ويمكن أن نختصر رأينا فيه بأنه أحد القلائل في القرن العشرين، وهو يكتب بلغة سهلة ممتنعة يصعب على الآخرين تقليدها.شاعر كويتيإبراهيم الخالدي: الحجر الأساس نزار قباني هو بوابة الشعر الحديث، التي فتحت الآفاق ووضعت حجر الأساس لكتابة هذا النوع من الشعر، حتى وإن جاء من بعده شعراء كبار من أمثال الشاعر الفلسطيني محمود درويش والعراقي سعدي يوسف. حبّب إلينا الشعر، واستطاع أن يجعله مادة قريبة إلى النفس لا سيما لدى المراهقين وأولئك الذين في طور التطوّر والنمو.شاعر كويتيرجا القحطاني: عصرنة القصيدةنزار قباني هو أحد رواد القصيدة العربية بشكلها المتجدّد، لا سيما القصيدة العمودية، استطاع أن يمنحها لوناً آخر وروحاً جديدة، ناهيك عن قصائده التفعيلية، وهو من أكثر الشعراء فهماً للمرأة، وتزخر قصائده بالحديث عنها، ليس من خلال نظرته إليها فحسب، وإنما تحدث عن نظرتها إلى نفسها. وحتى هذه اللحظة لم يظهر شاعر كتب بروحية قباني وبجرأته في بناء النص الشعري وعصرنة القصيدة كي تكون نابعة من البيئة الراهنة.شاعر كويتيحمد الحمد: جدال الحداثةفضّل قباني استخدام لغة يومية واضحة وشفافة، متجنباً انشاء فجوة بينه وبين المتلقي عن طريق استخدام لغة مقعرة في قصائده كتلك التي يخاطب بها بعض الشعراء متذوقي الشعر وهم في برج عاجي، على الرغم من مضي قرون ثلاثة عليها أو أكثر، مستخدماً لغة خاصة به يفهمها الأديب والمثقف والطالب والفتاة. لناحية المضمون، لم يؤثر هذا التبسيط اللغوي من حيث المفردات والألفاظ في مستوى القصيدة وجماليات الشعر، وفي تصوُّري جذبت شاعرية قباني إليها متذوقي الشعر وأثرت الذهنية العربية، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف جدال الحداثة والتجديد بين رفض وقبول أو تحفّظ عن بعض المضامين.أمين عام رابطة الأدباء عباس الحداد: الرفض بحريّةمنذ ديوانه الأول «قالت لي السمراء» حاول نزار خلق امرأة عصرية تأبى على القوانين الاجتماعية وتتمرد على التعاليم والأنساق الثقافية وترفض سطوة العادات والتقاليد وسلطة رجال الدين الذين حبسوا المرأة في قواقع وفي ظلام متتابع، فأخرجها من تلك المعاقل ومنحها حقها في جسدها وفي مشاعرها وفي تقرير مصيرها وجعل كينونة لها تقود ولا تقاد، تتصرف بحرية وتملك بحرية وترفض بحرية أيضا.وأوجد في شعره المرأة مذعورة الفستان، المكابرة، رافعة النهد، الزائرة، مدنسة الحليب، البغي، الساذجة، طائشة الضفائر، مصلوبة النهدين، الحبلى، المراهقة، التلميذة، ذات الضفائر الطويلة، امرأة من زجاج، إنها مجموعة نساء في امرأة أو امرأة في مجموعة نساء تتجلى في صور متقابلة تدفع إلى منح المرأة حقها في التعبير عن أية حالة من حالاتها الخاصة.وراح يتحدث بلسانها عن تفاصيل جسدها، حقوقها، ووجودها، سطوتها وضعفها، التهاب عاطفتها وهدوئها، ثورتها العارمة اتجاه الرجل وحبها له حباّ جماً. وبعد مضي عشر سنوات على وفاة نزار نشعر أننا فقدنا صوتاً شعرياً جريئاً في طرحه الشعري وفي تجربته التي لا تخشى سلطة سياسية او سطوة دينية، لأنها آمنت بأن الشعر هو فن الحرية الكبرى الكاسر لكل القيود والمحرر لكل العقول من مقولات الأسلاف الميتة التي لم تعد تصلح للحياة ولا تمنح إلا الموت في حاضرنا.باحث كويتيليلى محمد صالح: الرسم بالكلماتتبنى قباني قضية المرأة، فاحتلت ثلاثة أرباع شعره، وشبّهه بعضهم بالشاعرعمر بن أبي ربيعة. ومعروف أن المرأة هي القوة الدافعة للإلهام والإبداع سواء بالنسبة إلى نزار أو غيره من الشعراء، ويصعب أن ننسى دواوينه الأولى، ومنها «قالت السمراء» والرسم بالكلمات». ولم يتوقف عند الشكل الخارجي للمرأة إنما وصف أعماقها ودواخلها، بطريقة تصعب حتى على الشاعرات أنفسهن. وكان يتميز بكتابة نثرية راقية وجميلة، حتى إنه قال ذات مرة: «إني أخاف على شعري من نثري» ولكن بعد هزيمة 67 اختلف شعره وأصبحت السياسة تحتل حيزاً كبيراً منه، وتطرق كذلك إلى تحرير المجتمع من الخرافات وكان يصطدم مع كثير من الأنظمة السياسية، التي وقفت ضده، حتى ان بعض الإذاعات العربية امتنعت عن بثّ أشعاره وقصائده، حتى تلك المغنّاة منها. وأجمل ما يميزه أنه يكتب للحرية.أديبة كويتيةفهد الهندال: النهم الحديث عنه طويل لا يمكن اختصاره ببضعة سطور، لما تمثله هذه القامة الشاهقة في الشعر العربي، فهو حديث عن حضور حالم وقائم في صورة المرأة، التي تمثلت لديه في أشكال عدة: الأم / الزوجة / الابنة / الحبيبة / الغريبة / الأرض / الوطن / الأمة / القضية. ولعله في هذا النهم الشعري، في تناوله المرأة، يكاد يكون خطاباً شعرياً قائماً على فكرة إنسانية وأسطورية. أراد أن يؤكد أن الأنثى أصل الوجود البشري، كعاطفة ومشاعر وإبداع خلاّق، يحفز وينرفز، وما تختلجه روح الشعراء تجاه هذا الكائن الرقيق والجبار في الوقت نفسه .قباني، بنية شعرية، أضافت إلى الشعر العربي أبعادا جمالية، لما توسمته في أصالته القائمة على روح العمود الشعري من دون أن يكبل هذه الروح في قوالب متزمتة أو موغلة في الغموض. استطاع برهافة الوصف أن يؤسس خطاً جديداً، يتبعه الكثير من الشعراء، وحتى الآن، أجاد العشق لما هو جميل ورائع في لوحات أساسها دقة الخيال واتضاح ملامح تفاصيل المشهد الشعري، وإن اكتنز ببعض صوره دفء الألم والقلق. وربما كان هذا سببا في حضوره المستمر في الصفوف الأولى لشعراء وقتنا الراهن.باحث كويتيحمود الشايجي: قلب امرأةنزار من أذكى الشعراء العرب، استطاع أن يفهم سيكولوجية الإنسان العربي، من ذكر أو أنثى، ووفِّق في أن يكتب للرجل بقلب امرأة، كذلك استطاع في الوقت ذاته الكتابة للمرأة بقلب رجل، وإذا عرضنا لمواقفه السياسية نجده كذلك، رجلاً ذكياً يعرف ما يكتب.شاعر كويتيجورج جرداق: ليس شاعر الحب!يذهب مثقفون كثر الى إطلاق تسميات وألقاب على الشعراء والروائيين فيلصقون بهم اللقب لصقاً، ونزار هو واحد من هؤلاء الشعراء الذين ظلمهم لقبهم لأنه ليس «شاعر المرأة» كما يطلق عليه وليس شاعر القصيدة العاطفية، بل هو شاعر القصيدة السياسية القومية وهي التي ستبقى من شعره مهما مرّ الزمن عليها.أعتقد أن الحب لديه كان موضة، فكما على الفنان أن يغني العشق حتى لو لم يكن يشعر به كذلك كان شعر الحب في القصيدة «النزارية»، ومن ناحيتي لا اعتبره شعر حب بل شعر قتل وشرايين وحلمات وتابوت ومقبرة! كيف بعاشق، على سبيل المثال، ان يقول لحبيبته «لو كنت أعرف ان الحب خطير جدا ما أحببت»، أو «إني خيّرتك فاختاري ما بين الموت على صدري أو بين دفاتر أشعاري»، أو «إني مذبوح فيك من الشريان الى الشريان»! شاعر لبنانيشوقي بزيع: شهريارلا يقاس حجم الشاعر او المبدع في حضوره فحسب وإنما في غيابه ايضاً، أي بمدى الفراغ الذي خلفه وراءه حين توارى عن الأنظار، وأحياناً يبدو هذا الغياب شرطاً ضرورياً للتعرف عن كثب الى حقيقة الشاعر والى أهميته. من الصعب على أحد أن يملأ الفراغ الذي تركه نزار، والعالم العربي قبله هو غير العالم العربي بعده باللغة والإحساس ومقاربة الشعر ومقاربة العلاقة مع المرأة من ثوب الأنوثة، فحوّل الشعر الى عيد في عالم عربي يتلذذ بالنكد عادة.ثمة من يأخذ عليه كونه شهرياراً معاصراً، لكن من قال إن الشعر نقيض النرجسية؟ ألم يكن المتنبي نرجسياً بامتياز؟ المهم أن هذه النرجسية لا تتبعها النرجسية في إطارها السلوكي بحيث تبدو نافرة وتبدو موضع استنكار بالنسبة الى الآخرين. لقد وظف نزار النرجسية من داخل قصيدة الشعر نفسها فجاءت إيجابية لانها مكنّته من أن يجد المفصل الذي يجمع بين البعد الذاتي في الشعر وبين البعد الاجتماعي.شاعر لبنانيعبده وازن: الجمهور العريضسوف يسقط الكثير من شعر نزار قباني لا سيما شعره السياسي المباشر وبعض أشعاره الغزلية التي راح يكرر فيها نفسه ولغته وحتى تراكيبه الإيقاعية.شخصيا أحب نزار الأول، خصوصا ديوان «قالت لي السمراء»... ففي تلك المرحلة تجلّت جمالية الشاعر التي استوحى عبرها الحقبة الأخيرة من عصر النهضة، لكننا لا نستطيع أن ننكر شعبيته الكبيرة فهو يكاد يكون الوحيد الذي بنى جسرا بين الشعر الحديث – التفعيلي والجمهور العريض.شاعر لبنانيجواد صيداوي: لا يزال ملكاًُمن السابق لأوانه أن نعمد أو أن نحاول تقييم الإرث الفني لشاعر بعد مضي عشر سنوات على رحيله فحسب، فكيف إذا كان الشاعر المعني هو نزار قباني الذي أضاء سماء الشعر العربي بقصائده على مدى نصف قرن. «لقد جاءت من تاريخ الياسمين الدمشقي الذي يختصره كل العصور، من ذاكرة المتنبي التي تختصر ذاكرة الشعر من أزهار النارج والأضاليا من ضحكة النساء الشاميات، وقضيت سنوات أطوف كالسفينة في بحر الشعر...»، بحسب قوله، وفي تطوافه في بحر الشعر حوّل الدم لدى المراهقين الى تعبير يلهب الجسد وفتّق براعم أجمل الأزهار وقوّى اعتزاز المرأة بأنوثتها وأشار لدى الطاعنين ما في خزين الذاكرة من خفقات العمر الجميل، ورداً على من سماه «شاعر المرأة» قال قصائد سياسية وقومية اثر الأحداث الكبرى التي عصفت بالعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. وتعرض الى كثير من النقد والتجريح، كذلك حظي في الوقت ذاته بالكثير من المديح والترحيب، وقد علّمنا تاريخ الأدب أن الناس ما اختلفوا يوماً إلاّ على كبير ونزار قباني شاعر كبير.لا يزال حتى الآن في الشعر ملكاً سواء في قصائده الغزلية أو في القصائد السياسية والوطنية وذلك على الرغم من اتهام البعض له بالركاكة والتكرار والنكرية في بعض شعره، خصوصاً في شعر المناسبات السياسية والوطنية. ونحن لا ننقص هنا من شعر المناسبات «كل الشعر، يقول بول الويار، مناسبات ولكن على المناسبات أن تكون مناسبات الشاعر، ذلك أن المناسبة الخارجية يجب أن تكون والمناسبة الداخلية على سياق حتى لكأن الشاعر هو الذي أوجدها». وحتى من اتهمه بالركاكة ذهب في حكمه، على ما نظن، الى سهولة التعبير الشعري عنده وتجنبه الغوص في متاهات الحداثة، لكن تلك السهولة التي ندرجها في خانة «السهل الممتنع» كان لها دور فاعل في تقريب الجماهير الواسعة من الشعر بعدما أبعدها عنه الغموض المظلم عند بعض من استظل خيمة الحداثة من شعرائنا في حين كان المواطن العربي في الغالب يعيش في ظلمة القرون الوسطى، وهذا فضل للشاعر لا يمكن انكاره.روائي لبنانيعبد المجيد مجذوب: علاقة ودّجمعتني بنزار علاقة ود وصداقة رافقت مفاصيل حياته. طبع مرحلته الزمنية بشعره كما فعل قبله أبو الطيب المتنبي وبهاء الدين زهير. قال أجمل ما يمكن قوله ليس في المرأة فحسب بل في فنون الشعر كلها من القومية والصرخات التي تعبر عن الألم وتدعو الى أن نصحو من غفوتنا. بعد عشرة أعوام بقي من نزار كل نزار وسيبقى طالما ثمة من يتحدث بلغة الضاد فقيمته لا تزول ولا تذوب.ممثل لبنانيحمزة عبود: الحب المعترضتعلمنا من لغة نزار أن نكتب رسائلنا الأولى وكانت محاولة كتابة أو حوار تستدعي وقتاً لا نأمنه قبل أن ننكفئ على مساءات دروسنا ووظائفنا. هي رسائل وحوارات عابرة وسريعة، لكنها ستكون علامة حريتنا في عالم يعتبر الحب خطراً على العائلة والأمة. ظلت أصداء قصائده تلاحقنا حتى في اللحظات التي نحس فيها بثقل أعمارنا، بل في ابتعاد اللغة الى مناطق ممتنعة في الحواجز والحراسة. ليس في شعره ما يقوله أكثر مما قاله في مجموعاته الأولى، لكن ما قاله لا يزال عنوان تجربته التي تلامس واقعاً لم يتغيّر كثيراً. فالحب المعترض والمرأة المتمردة والرجل المستبد والجسد المعتقل والحرية المغلولة والحزن والخوف والثورة... كلها لا تزال، كأنه لا يريد أن يرى سوى هذه اللحظات البديهية التي تنطوي عليها صورة الواقع. ما بقي منه هو هذا التحريض على الحرية الذي حوّل بوادر التمرّد والقلق الى خطاب صريح أرسته مغامرته منذ ديوانه الأول: مشروع القصيدة هو مشروع المعنى.شاعر لبنانيزاهي وهبي: كيمياء بقي من قباني إرث الشعر العظيم كله والقصائد الجميلة كافة على اختلاف مواضيعها، سواء شعر الحب أو السياسة أو ذات البعد الاجتماعي.أكثر ما أحببت في شعره هو السهل الممتنع والإيهام بأن هذه السهولة ممكنة لأي كان. بالإضافة الى أن كل من حاول تقليد نزار العاشق او السياسي لم يكتشف حقيقة الكيمياء التي يتكون منها هذا الشاعر.شاعر لبنانيأحمد قعبور: نقيض مراهقتناأحب في نزار قباني السهل الممتنع نقيض مراهقتنا نقيض تعقيداتنا. وما بقي منه هو ما احببناه وهو ليس بقليل، أحببنا سلاسته وانسياباته التي كنا ندينها في مقتبل الأعمار الثقافية ونغار منها، وحبنا المتأخر لهذه القصائد هو إدانة متأخرة لنا.أحب فيه حبه لبيروت وأنه وجد في هذه المدينة حرية عشقها أكثر ربما من عشقه للمرأة، أحب حضوره ولباقته وصوته لأن الشعراء أصوات وليس كلمات فحسب، وربما نحن في حاجة في الأزمنة المعقدة والصعبة الى أصوات مطمئنة كصوته.ملحن لبنانيقزحيا ساسين: مصابون بعقدتهنزار شاعر كبير بقوة قصيدته وحضورها من دون أية رافعات ومطيبات إعلانية. والذين يرفضون شاعريته مصابون بعقدته أو تمتد فيهم صحراء لا تنتهي أو معتنقو حداثة الطلاسم والحزازير.صحيح أن كثيرا مما كتبه ليس له حياة طويلة على بساط الأيام، من جهة لأنه لا يرقى الى مستوى نزار الشعري الحقيقي، ومن جهة أخرى لأنه ذو قدرة على التحريك أو الإثارة بالمعنى الزمني العابر، غير أن القليل الذي يبقى منه رائع وكفيل بإبقائه شاعراً كبيراً مدى الزمن.شاعر لبنانيهيام يارد: ثورة عاشقبقي من نزار قباني تحريره قضية المرأة من طابع «التابو» الذي لطالما وضعت فيه وتقديمه إليها حريتها ودفعها الى مزيد من الجرأة.أحدث ثورة في الشعر، ثورة سلاحها العشق والكلمات المتمردة. علمنا انه ما من سلام من دون حب وثورته ثورة عاشق وفنان وإنسان أدواته الوحيدة كلمات وحروف عاشقة، ربما لو يقرأها السياسون ويفهمونها سيجدون من دون شك حلا لما يعتري وطننا لبنان من أزمات. من خلال قراءته وقد عرفته بالفرنسية تداركت أمرا مهما هو أن معالجة الكبت السياسي والاجتماعي أو الفردي لا تكون بالثورة والحرب والدماء بل بالاستيقاظ على هويتنا وطريقة تقديمها بروح الحب والسلام.روائية وشاعرة لبنانيةلميس سعيدي: المذاق الأولشعر نزار يشبه مذاق الأشياء الأول، نتجاوزه لكن لا ننساه. أشعاره حاضرة بشكل لا نستطيع تجاهله بطريقة جعلت الشباب يعرفون شعره وان كان ذلك خارج الكتب. لكن باعتقادي أن ما بقي منه هو على الأقل حضور الشعر والشاعر في ذاكرة مجتمعات عربية لا تقرأ ولا تهتم بالثقافة ولا بالشعر.شاعرة جزائريةفاروق شوشة: كسر الخوفسيظل واحداً من أبرز شعراء العربية الذين نجحوا في الوصول إلى أغوار العاطفة الإنسانية والمشاعر الفياضة التي تجيش في صدور شريحة واسعة من المجتمع. كذلك نجح في إعطاء المرأة ذاتية خاصة، الأمر الذي طبع قصيدته بالرقة والرهافة، وسيظل في ذاكرة الناس بأشعاره التي عبرت عن خلجات النفس البشرية، وستظل كتاباته مرتبطة بمرحلة من أبرز المراحل العمرية والتي يفوت المرء أمور كثيرة إن لم يمر بها، لأنها فترة ادهاش القلب والعقل سواء في شعره العاطفي أو السياسي. بالاضافة الى ان أشعاره كسرت جدار الخوف والحاجز الذي كان بين الشعر والناس.شاعر مصريسيد حجاب: عاطفة جياشة بقي الكثير من نزار الذي لا يمكن الإحاطة به، لأنه يدخل في الوجدان فتأثير أشعاره في الوجدان العربي لا يمكن حصره، كذلك لا يمكن تجاهله لأنه كرس الإحساس والشعور بالحب والعاطفة الجياشة تجاه المرأة. وسيبقى علامة مهمة في تاريخ شعرنا العربي الحديث، ورحلته الشعرية الممتدة هي محاولة للدخول في روح العصر وفي التواصل مع أهل زمانه وهذا سيبقى طويلاً.أحدثت كلماته ولغته الشعرية في حينها حراكاً كان يحتاجه الشعر العربي. والمباشرة التي حملتها قصائده كانت هي المباشرة المحبوبة والمقبولة وليست الفجة المرفوضة، مما جعلت هذه الأشعار تدخل بسهولة في صميم الوجدان الذي تجاوب معها سريعاً.شاعر مصريفاروق جويدة: وفاء وحنينستبقى أشعاره ما بقي في الحياة عاطفة وشعور بالحب وأعبر دائما عن وفائي وحنيني الدائم لنزار، ولي قصيدة كتبتها له بعد رحيله بعنوان «وسافر فارس العشق» ألقيتها أخيرا خلال أمسية عقدت في دار الأوبرا المصرية تأكيدا على مدى افتقادي له تقول القصيدة :يا درة الشام يا أغلى فيها قلائدها أبيات شعرك تيجان من الذهبإن سألوا الناس يوماً عن مراتبهم فدولة الشعر فوق التاج والرتبنحن السلاطين كل الكون دولتنا ونحن بالشعر فوق الجاه والنسبنحن السلاطين شاء البعض أم غضبوا فكل ما عندهم كوخ من الحطبلم تخش في الحق كهاناً بضاعتهم سيف مريض وتيجان من الخشبشاعر مصريرفعت سلام: لا يشبه أحداًما بقى من نزار بعد رحيله أنه أسس صوتاً خاصاً في الشعر لا يتشابه مع أي صوت آخر وهو منفرد قلده فيه آخرون من بعده مثل فاروق جويدة ولم يكن مقلداً لأحد. هو الوحيد الذي جعل المرأة قضيته الأساسية والأولى ثم زاوجها بالسياسة بعد هزيمة يوليو 1967 وراوح بين الاثنين في بقية قصائده وأعماله الشعرية. خرج على التقاليد البالية للمجتمع الذي كان يحرص على ستر خدر المرأة، حتى اتهم بالخروج على عرف المجتمع وأطلقت عليه ألقاب من بينها شاعر المرأة، واتهمه النقاد بأن المرأة في شعره ليست قضية وأنها مجرد هوية للعبور إلى الجماهير والاستيلاء على انبهار الناس. إلا أن الطريق لم يكن معبداً له فعمل على تكسيره وتخطيه ومكاشفة المجتمع بأوجاعه، كي يستطيع علاجه من الأمراض التى ألمت به.شاعر مصريشعبان يوسف: نبرة كلاسيكية يعد قباني أحد ابرز الشعراء العرب وامتداداً لمدرسة الشعر الحسي وله تلامذة كثر تأثروا به وبنظرته ويدينون له لأنه استطاع أن يكتب ما لا يكتبه أقرانه من أبناء جيله وصولاً إلى بدر شاكر السياب وغيره.وتفرد وحده بمدرسة الحس الشعري وحقق النبرة الكلاسيكية في الشعر العربي التي تتوارثها الأجيال الشعرية في ما بينها. وإن كان يوجد بعض من التعالي والنفور من شعره لاتجاهاته الحسية، إلا أنه عاد في تسعينات القرن المنصرم بقوة وبطريقة تعبير وتقنيات فريدة.ناقد مصريسحر الموجي: تخطى حاجز العمركُتبت أشعار نزار لتعالج القضايا، فهو لم يكتب بشكل خاص للمرأة لتصوير شكلها والتغزل في جسدها، إنها نظرة سطحية لما كتبه، بل امتلك قدرة كبيرة على ادهاش الآخرين باستخدام ناصية اللغة. دعا في أشعاره المجتمع إلى التمرد والخروج على التقاليد. كان يدعو المرأة إلى التحرر وتخطي حواجز العجز والهوان لإثبات ذاتها وخصوصيتها وإنسانيتها، وأتذكر أني قرأت وصفه المرأة المثقفة بأنها هي التي تستطيع أن تدخل في حوار شمولي مع الرجل لساعات، من دون أن تشهر في وجهه أسلحتها التقليدية من جفون ناعسة وأظافر حادة.روائية مصريةيسري عبدالله: رؤى له قصائده المسكونة بالفنية والمتحدثة بالرؤى وله في الوقت نفسه قصائد عادية لها من الشعر ما له من الإيقاع. يجب النظر إلى شعره بموضوعية فلا نجرده من الشعرية ونتعامل معه بوصفه صوتاً يداعب ذائقة الجماهير فحسب أو بوصفه رمزاً شعرياً لا يجب الاقتراب منه. ومن ثم يتحتم النظر بموضوعية إلى ما خلّف، إذ يزخر بتقنيات مركزية في شعره عن المرأة والواقع العربي والعلاقة بالآخر. ويمتلك شعره ونصوصه التي صبغت بطابع سياسي إمكانات البقاء حتى اللحظة الراهنة علاوة على قصائده البديعة من الشعر المعاصر مثل قصيدة «دمشق». ناقد مصريفارس خضر: أرواح أخرىما بقي من نزار هو الباقي من كل شاعر عظيم يترك جزءاً هائلاً من روحه على الأرض، تنمو وتتكاثر وتتفاعل مع أرواح أخرى، بهذا يرسم لها الخلود ويرسم لهذه الأرواح أن تحظى بمصافحة الروح الشعرية. وأعتبره ناثراً عظيماً على الرغم من الانتقادات التي وجهها اليه البعض بأن أشعاره خفيفة وغنائية وتغلب على نصوصه الرؤى المتحذلقة.أبرز ما يميز الشاعر الجيد أن لغته وأشعاره يتحدث بها الجميع وتنمو بين الناس والجمهور ولا تموت مع الزمن وهذا ما فعله قباني.رئيس تحرير مجلة «شعر»فتحي إمبابي: سيبقىترك قباني بعد رحيله إرثاً خالداً في مسيرة الشعر العربي لأنه يتمتع باللغة المميزة، وفي تصوره الحسي لدى المرأة التي خلق فيها الجسدية وليست الرومانسية فحسب.أرى أن موقفه الخاص بعد هزيمة حزيران 1967 زخر بالبعد الوطني والإحساس الكامل من الشاعر تجاه الهزيمة والوطن وقضاياه. يتسم بالنبل الشديد والواضح في تحوله خلال اللحظات التاريخية من عمر الأمة العربية، ويتمتع بعمق متدفق وشعرية مميزة بسيطة وسهلة ستخلد وتبقى ما بقي الشعر العربي.روائي مصريإبراهيم عبد المجيد: لغة عابرة للأجياليتميز شعر نزار بلغة سهلة وعابرة للأجيال وستظل قصائده السياسية المهمومة بقضايا العالم العربية باقية بقاء الشعر العربي من خلال حسه المرهف وذائقتة البديعة ولغتة الفريدة من الأربعينات إلى اللحظة الراهنة.كاتب مصريمنير الوسيمي: للجمهور أغنياته بعد عشرة أعوام على رحيله بقي من نزار كل الشعر والأدب والفكر والفلسفة للفئة المثقفة، لكن الواضح للجمهور هو أغانيه فحسب التي تتصف بالجرأة والمفاجأة، فهو في مصاف الشعراء العظام مثل المتنبي ومحمود سامي البارودي وأحمد شوقي، وهو مدرسة جديدة في الشعر فقد وصف شعراء الجاهلية المرأة، لكنه وصفها بشكل آخر وإحساس آخر ولا يسعني إلا أن اقول «رحمه الله كان شاعراً ودبلوماسياً وفناناً كبيراً وفيلسوفاً وعربياً إلى النخاع، فهو حالة فنية تسيرعلى الأرض أعطت للبشرية كثيراً من الحياة من خلال قصائدها.نقيب الموسيقيين المصريينياسر عبد الرحمن: حالة لن تتكررنزار حالة فكرية لا تتكرر، ترك بصمة لدى مطربين وملحنين وشعراء كثر جعلت منهم حالة فنية فريدة يتغنى الجميع بشعره حتى الآن. ويعلم الموسيقيون أن شعره أقرب إلى البساطة في الكلمات للمتلقي، فهو قدم وجبة دسمة للمستمع والقارئ العادي، لكن بشكل مبسط ولا أخفي أن المستمعين البسطاء الذين لا يعرفون القراءة والكتابة يحفظون كلمات نزار التي تغنى بها مطربون عظماء وأثرت في وجدان هؤلاء البسطاء وخلقت لديهم ثقافة خاصة، مزجت بين اللغة العربية وثقافة المتلقي. ملحن مصرييقول عن نفسه: «ولدت في دمشق في آذار (مارس) 1923 في بيت وسيع، كثير الماء والزهر، من منازل دمشق القديمة، والدي توفيق القباني، تاجر وجيه في حيه، عمل في الحركة الوطنية ووهب حياته وماله لها. كنت الولد الثاني بين أربعة صبيان وبنت هم: المعتز ورشيد وصباح وهيفاء، «أسرتنا من الأسر الدمشقية المتوسطة الحال، لم يكن أبي غنيا ولم يجمع ثروة، كل دخله من معمل الحلويات الذي كان يملكه، كان ينفق على إعاشتنا وتعليمنا وتمويل حركات المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين، أبي كان يمتهن عملا آخر غير صناعة الحلويات. كان يمتهن صناعة الحرية كان أبي إذن يصنع الحلوى ويصنع الثورة. هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة. الورد البلدي سجاد احمر ممدود تحت أقدامك، وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسماءها، لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب وعشرون صحيفة فُل في صحن الدار هي ثروة أمي كلها.هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق، كما يفعل الصبيان في الحارات.امتازت طفولتي بحب عجيب للاكتشاف وتفكيك الأشياء وردها إلى أجزائها ومطاردة الأشكال النادرة وتحطيم الجميل من الألعاب بحثا عن المجهول الأجمل. عنيت في بداية حياتي بالرسم، فمن الخامسة إلى الثانية عشرة من عمري كنت أعيش في بحر من الألوان. مدرستي الأولى هي الكلية العلمية الوطنية في دمشق، دخلت إليها في السابعة من عمري وخرجت في الثامنة عشرة أحمل شهادة البكالوريا الثانية «قسم الفلسفة»، وحصلت عام 1945 من الجامعة السورية في دمشق على الليسانس في الحقوق. لم أقبل على دراسة القانون مختارا وإنما درسته لأنه مفتاح عملي إلى المستقبل، واتقن اللغة الفرنسية التي تعلمتها خلال دراستي في الكلية العلمية الوطنية، والإنكليزية خلال عملي في السفارة السورية في لندن (1952-1955)، والإسبانية في اثناء عملي الدبلوماسي في مدريد (1962-1966).لم أمارس المحاماة ولم أترافع في قضية قانونية، القضية الوحيدة التي ترافعت عنها ولا تزال هي قضية الجمال، والبريء الوحيد الذي دافعت عنه هو الشعر.حين كانت طيور النورس تلمس الزبد الأبيض عن أغصان السفينة المبحرة من بيروت إلى ايطاليا في صيف 1939 وفيما كان رفاق الرحلة من الطلاب والطالبات يضحكون، ويتشمسون ويأخذون الصور التذكارية على ظهر السفينة كنت أقف وحدي في مقدمها ادمدم الكلمة الأولى من أول بيت شعر نظمته في حياتي. وللمرة الأولى وفي سن السادسة عشرة وبعد رحلة طويلة في البحث عن نفسي نمت شاعرا». غزل تزوج نزار مرتين، الأولى من ابنة عمه زهراء آقبيق وأنجب منها هدباء وتوفيق. والثانية عراقية هي بلقيس الراوي وأنجب منها عمر وزينب.يقول في كتاب يحمل مذكراته: «بلقيس هي كنز عظيم عثرت عليه مصادفة، حيث كنت أقدم أمسية شعرية في بغداد عام 1962. قصتنا كقصص الحب في المدن العربية جوبهت بـ«لا» كبيرة جداَ. كان الاعتراض الأقوى على تاريخي الشعري، وكانت مجموعاتي الغزلية وثائق أشهرها أهل بلقيس ضدي. والقبائل العربية كما نعرف لا تزوج بناتها من أي شاعر تغزل بإحدى نساء القبيلة، ولما يئست من إقناع شيخ القبيلة بعدالة قضيتي، ركبت الطائرة وسافرت إلى أسبانيا لأعمل دبلوماسيا فيها لمدة ثلاثة اعوام. وخلال هذه الاعوام الطويلة كنت أكتب لبلقيس، وكانت تكتب لي، رغم أن بريد القبيلة كان مراقباَ». بلقيسومع بلقيس شعر نزار أنه يعيش في حضن أمه، فظلت تعامله كطفل وتعوضه عن بعد أمه وكان كثير التنقل، لذا نجده يكتب لها قصيدة بمناسبة مرور عشرة أعوام على زواجهما يقول فيها: أشهد أن لا امراة اتقنت اللعبة إلا انت واحتملت حماقتي عشرة اعوام كما احتملتأشهد أن لا امراة قد جعلت طفولتي تمتد خمسين عاماَ. إلا أنت وبعد وفاتها رفض أن يتزوج، وعاش سنوات حياته الأخيرة في عاصمة الضبابصدمةكانت الصدمة الكبيرة في حياته حين توفت والدته عام 1976، فهي التي كتب لها قصيدة «خمس رسائل إلى أمي» عندما كان يسافر بسب عمله في الحقل الدبلوماسي، وكان يصف حاله من دونها في «ديوان الرسم بالكلمات» قائلا: ... لم أعثر على امرأة تمشط شعري الأشقر وتحمل في حقيبتها إليّ عرائس السكر وتكسوني إذا أعرى وتنشلني إذا أعثر ايا أمي أنا الولد الذي أبحر ولا زالت بخاطره تعيش عروسة السكر فكيف... فكيف... يا أمي غدوت اباَ...ولم أكبر ولم تمر سوى أعوام قليلة وتحديداَ في 15 كانون الأول (ديسمبر) 1981 حتى يصدم نزار صدمته الثانية، وكانت في وفاة زوجته وأمه الثانية بلقيس الراوي، التي قتلت في حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت. يصف نزار هذه اللحظة قائلا: «كنت في مكتبي في شارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد ولا أدري كيف نطقت ساعتها: يا ساتر يا رب. بعدها جاء من ينعي إلي الخبر. السفارة العراقية نسفوها. قلت بتلقائية بلقيس راحت. شظايا الكلمات ما زالت داخل جسدي. أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياها، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي». ويطلق الشاعر صرخة حزن مدوية، في قصيدة تعد من أطول القصائد هي «بلقيس». ومن المحن أيضا التي مرت عليه كانت وفاة ابنه توفيق بمرض القلب وعمره 17 سنة، وكان طالباً في كلية الطب في جامعة القاهرة. رثاه بقصيدة شهيرة عنوانها «الأمير الخرافي توفيق قباني» يقول: أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري كمئذنة كسرت قطعتين. وشعرك حقل من القمح تحت المطر. ورأسك في راحتي وردة دمشقية. وبقايا قمر أواجه موتك وحدي. وأجمع كل ثيابك وحدي وألثم قمصانك العاطرات. ورسمك فوق جواز السفر وأصرخ مثل المجانين وحدي وكل الوجوه أمامي نحاس وكل العيون أمامي حجر فكيف أقاوم سيف الزمان؟ وسيفي انكسر. بدأ كتابة الشعر في السادسة عشرة من عمره، وأصدر أول دواوينه «قالت لي السمراء « عام 1944 خلال دراسته في كلية الحقوق، وطبعه على نفقته الخاصة. وتأثر كثيرا في شبابه بانتحار أخته «وصال» عندما أجبرها أهلها على الزواج من رجل لا تحبه، فنذر شعره لحب المرأة منذ صدور ديوانه الأول وأصبح من وجهة نظر مثقفي الخمسينات مجرد شاعر مترف برجوازي يكتب عن المرأة وجسدها. كثيرة هي المعارك التي خاضها عبر شعره ومن هذه القصائد «خبز وحشيش وقمر» التي أثارت ضده عاصفة شديدة وصلت إلى البرلمان وطالب رجال الدين في سوريا بطرده من الخارجية وفصله من العمل الدبلوماسي في منتصف الخمسينات بعد نشرها. كذلك أثارت جدلاً بين رجال الدين فاعتبروه كافرا وملحدا وفيها يقول:ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياءْ ببلادي.. ببلادِ الأنبياء.. وبلادِ البسطاءْ.. ماضغي التبغِ، وتجَّارِ الخدرْ ما الذي يفعلهُ فينا القمرْ؟ فنضيعُ الكبرياءْ ونعيشُ لنستجدي السماءْ كذلك أثارت قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» جدلا واسعا بعد نشرها، لأن شعره قبل نكسة 5 حزيران (يونيو) 1967 كان منصرفا الى الغزل والحب ولذلك أطلق عليه النقاد «شاعر المرأة»، وكان لهذه الهزيمة وقع أليم على نفسه وغيرت لديه المفاهيم والقيم في السياسة وأصيب بصدمة اهتز لها وجدانه واجتاحه غضب خرج في قصائده جلياً ينطق: أنعي لكم يا أصدقائي، اللغة القديمة، والكتب القديمةأنعيكلامنا المثقوب، كالأحذية القديمةومفردات العهر، والهجاء والشتيمةأنعي لكم. أنعي لكمنهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمةويقول : إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ لأننا ندخُلها. بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ لأننا ندخلها. بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ طالبت أقلام كثيرة في مصر بمنع دخوله إليها ومنع أغانيه في الإذاعة المصرية، ولكن الرئيس عبد الناصر حسم هذا الموقف إذ علق على الرسالة التي بعث بها إليه قباني في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 بما يلي: «تُلغى كل التدابير التي اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد ويُكرم فيها كما كان في السابق.»توفي في 30 نيسان (أبريل 1998) في لندن بعيدا عن بيروت التي أحبها وهجرها بعد مقتل زوجته بلقيس عام 1982. انتقل إلى مصرعام 1983، فتعرض لهجوم عنيف هناك من قبل الإعلام المصري على خلفية قصيدة ضد الرئيس أنور السادات انتقده فيها وانتقد اتفاقية كامب ديفيد للسلام المصري مع اسرائيل، فقرر الانتقال إلى سويسرا عام 1984 وبقي فيها خمسة أعوام ثم سافر إلى لندن عام 1989 وقضى فيها تسعة أعوام حتى رحيله.
توابل - ثقافات
في الذكرى العاشرة لرحيله... ماذا بقي من نزار قباني؟
30-04-2008